يعرف الرثاء بأنه شعر يتضمن عواطف صاحبه نحو ميت، وتتأرجح هذه العواطف ما بين التفجع، ومدح الميت، مروراً بالحزن المعتدل، وقد عرف العرب شعراء رثائين في العصر الجاهلي كـ"المهلهل" و"الخنساء" و"أبو ذؤيب الهذلي" في العصر الإسلامي، وقد تبوأت "الخنساء" ذروة هذا الشعر في رثائها لأخويها صخر ومعاوية، ومما قالته في رثاء أخيها صخر:

كأن عيني لذكراه إذ خطرت/ فيض يسيل على الخدين مدرار

تبكي "خناس" على "صخر" وحق لها/ إذ رابها الدهر إن الدهر ضـرار

زيارة المقابر في الأعياد

وإذ ما بادرنا إلى البحث عن بذور هذا الفن الشعري في ريف "الرقة" كأحد أرياف وادي الفرات لوجدناه يلتقي وشعر "الخنساء" بسمتين بارزتين، الأولى: إنه شعر نسوي النظم، الثانية: إنه يقتصر على ذكر مناقب الميت.

كما ويقابله في البلاد العربية الأخرى "العديد" في مصر، و"النصاري" في العراق، ولوجدناه ذا نبرة حزينة مؤثرة تأثيراً حاداً على النفس، حيث يدفع الدموع إلى الانهمار المباشر. ويعرف في الريف الرقي لونان من أغاني الحزن: النعي والقول أو الندب. ومع أن كلا الاسمين يندرج تحت معنى واحد، إلا أن العارفين بهذا الشعر يصرّون على تفريد التسمية، وسنعرج مبسطاً على كل منهما.

الولائم من أشكال الكرم

أولاً: النعي: وهو صورة من صور الرثاء، ويعرف باللهجة المحلية باسم (النعة)، كما أنه بيت بشطرين مقفيين بقافية واحدة، وهو مزيج من الشعر والسجع بآن واحد، كقول الشاعرة تصف رجلاً بأنه كالسبع، وكالفرات أثناء فيضاناته عندما يهدم أطراف الأراضي المحاذية له، ويركب أصيلاً ولا يهاب أحداً.

ياسبع يا هداد الجراف/ راكب عزوم وما يخاف

يردد النعي في المآتم كصورة من صور المراثي، حيث تنشده النائحة، وتردده النساء الأخريات بصورة حزينة وبكائية، ويمكننا أن نصنف النعي إلى تصنيفات مسندة إلى جنس المرثي أو عمره أو صلته بالراثية أو صفاته كالشجاع المقدام، والجوّاد الكريم، والمرأة الجميلة والكريمة والمعطاءة والمدبرة.

في الرجل المقدام الشجاع: إنه كالسبع ذي الناب الأصفر ولفقده صاحت وندبت وقالت أنه يوم أسود:

يا سبع يابو ناب أصفر/ صاحت وقالت يوم أكشر

وأين أنت أيها الذئب لقد غابت الشمس فعد:

ذيب الـبراري يا مشوح/ غابت عليك الشمس روح

وهو كالسبع يتقدم إلى مورد الماء ويأخذ الأولوية من بين وارديه:

عربان عالبير وردم/ وذاك السبع بيهم تقدم

وإنه لعجل الحركة، ويليق له حمل السيف لأنه كريم وشجاع:

السيف يلبق لك يا عاجل/ بيك الغنيمة والمراجل

اقترب مني أيها الشجاع، قد جاءني الذميم، وعجل لتحميني، فلقد أوشك على أن يصلني:

شوف العفن شيريد مني/ خفف جدامك لا يصلني

وهو من أولئك الذين يمشون في السوق الرئيس، ويتأبطون أسلحتهم دون المخافة من أحد:

يمشون بالسوق الغداني/ وبجانبهم لاحت رداني

في الرجل الكريم: إنه من أولئك الذين لا يذبحون إلا أنثى الغنم الصغيرة، وذلك لشدة كرمهم وغنيمتهم:

ما يذبحون ألا الفطيمة/ من زود الكرم والغنيمة

ومن الذين جلسوا قرب بركة الماء والعشب، فأرسل طالباً القهوة المرة والفناجين ليرتشف الضيوف منها:

قعدم على بركة ونجيل/ ودزم على دلة وفناجيل

ولقد أجادوا وفي جودهم ضرب من الجنون و لكثرة كرمهم لم يجمعوا مالاً:

كرمم و كرمهم هبال/ ومن زود الغنيمة ماجنم مال

وهو ينتقل على طرفي المرجل ليفرغ اللحم في المنسف ويزيده أكثر:

يندار والكفكير بيدو/ واجف على المنسف يزيدو

في الرجل الوجيه والحكيم وذي الرأي السديد:

لقد فقدنا ذلك الرجل الذي يشبه البلبل في ذكائه عندما يجلس في مجلسه، ولقد احتجناه هذا اليوم الذي يفقد فيه من هو مثله:

يا بلبل المجلس فقدناك/ عند اللزوم اليوم عزناك

وهو الذي يقصده أقاربه دائماً ليشاوروه فهو صاحب الرأي والمشورة:

عمامك ورا بيتك كعود/ وأنت عليك الشور مردود

وهو من ذوي العلاقة الحميمة مع أولي الأمر:

على باب السرايا قبت فراهم/ والنزل الغربي تناهم

وخيولهم دائماً تربط قريباً من السرايا:

على باب السرايا ربطم خيل/ وفاتم على الحكام بالليل

وصوته يؤنس في المجلس فقد خشيت المجلس لأنها لم تسمع صوته فيه:

جيت للمجلس وهبته/ وصوتك يا عيني ما سمعته

ولم تقتصر الاستشارة على الأهل والاقارب، بل أنها وصلت إلى الحكام أيضا:

البس عباتك واطلع ايدك/ الحاكم الـ بالرقة يريدك

في الرجل القريب، وولي الأمر (أب ،أخ ، ابن ،عم): لقد تركها أبوها كالعمياء في بيت مروق:

يابا شلون بيوم الفراق/ عمية وملفوفة بالرواق

وهي تبحث عن وليها وهي متعبة وطريقها بعيد:

دربي بعيد وشايله ابني/ بيت الحنون أصوب مبني

وهي تتمنى له الشفاء لأنه كالعمود الذي يرفع البيت:

عسى الولي طاب وبري/ شايل عمد للبيت يبني

وهي تجد مرافقة أولياء الأمر عذبة عندما تكون الأراضي خالية حيث لا تخاف احد و الجود ممتلئ بالماء ولا عطش أيضاً:

يا زين رفجتكم يا وليان/ بأرض الخلا والجود مليان

ومم ليس لديه رجال تحميه فهو ذو حظ سيء:

مقرود يالمالك رجال/ لونـك سبع سـموك ذلال

ولم تبغ منه جملاً عطاء وإنما تريده ولياً لأمرها يحميها فقط:

ما ريد منك جمل بهجار/ أريدك ولي وأجاورك جار

ولم ترد منه ثوباً لابنها، وإنما تريده أن يبني بيته بصدر البيوت:

ما ريد منك ثوب لابني/ أريدك بصدر النزل تبني

في المرأة الحسناء الجميلة: لقد كانت بيضاء كإبريق الفضة بيد الوالي خالية من العيوب:

بيضا وما بها لـــولا/ مثل بريج الفضة بيد مولى

وهي تمشي بغنج ورغد ورأسا قدميها رفيعين:

بيضا وروس جدومها رفاع/ تمشي رغد ما توجع القاع

وهي جميلة ترتدي الجوخ وعريقة النسب ومتزوجة من أحد وجهاء القبيلة:

حلوة ولبست بدن جوخ/ بنت الحمولة وكنة شيوخ

فمرحباً بها عندما تقبل كالشمس وتبعد عني الهموم:

يا مرحبا بالشمس هلت/ وهموم قلبي اليوم حلت

فما أحلى عقيدات الهباري برقاب اللائي يشبهن غزلان البراري:

ياحلو عجدات الهباري/ برقاب غزلان البراري

فضعوا عباءاتكم ظلالاً لها حتى تتكئ تلك التي تشبه الغزالة بحسنها:

حطم شواليكم ظلال/ تاترتكي عنز الغـزال

في المرأة المدبرة، إنها مهيأة للعمل دائماً وما أحلى حزام الشويحي على خصرها:

مشكلة والثوب قاصر/ محلى الشويحي عالخواصر

وبيتها مميز من بيوت الأخريات، ولو خيرت بأن أموت عنها لاخترت الموت:

بيتك معدل عالبيوت/ ولو يصيرلي عنك لأموت

معدله والروج عالي/ وتصير كنة للموالي

وهي صاحبة مشورة ورأي حيث ورثت الرأي السديد من والدها:

تعالم عليها شاوروها/ يشورها من شور أبوها

في المرأة الكريمة المعطاءة: عندما تكون أماً معطاءة فإنها تجزيها وتجالسها، ولا تهاب الطريق البعيدة:

أمي تسيرني ونقعد/ وآني على الدرب مبعد

ويا مرحباً بها عندما تقبل وتلتفت ولا أدري ماذا خبأت لي من العطايا:

يا مرحبا جتني تلفت/ وبردانها مدري شلفت

وأهلاً باللائي يحملن العطايا حيث ملئت الأواني فيها:

جاني الجدح يغرف ملاتو/ يا مرحبا بالجايباتو

وأن اللائي عاشرنها يبكين لرحيلها ويترحمن على عظام أبويها:

يبكن عليك العاشروك/ يرحم عظام الخلفوك

ثانيا: القول أو الندب: وهو صورة من صور الرثاء أيضاً، تردده النائحة في حلقة تسمى حلقة الندب، وهو ذو أوزان منوعـة، ومتكئة في جانب منها على ألوان الشعر الشعبي الأخرى، كالعتابا والمدائح الدينية. ويظهر أحياناً بوزن مبتكر لأول مرة، وعلى الغالب يأتي على شكل بيت بأربعة أشطر الأول والثاني والرابع موحدات الروي أما الشطر الثالث فيأتي بقافية حرة:

طالت أيامي و البعد ما طالي/ شد المعارج وأركب الخيال

حزني عليهم بالقلب لو دوية/ رعيد زلزل من عوالي الجبال

وأحياناً الثلاثة الأولى موحدة الروي والشطر الرابع بقافية مستقلة تتحد والأبيات اللاحقة، حيث يستخدم عندهـا البيت الأول كلازمة، يسمى هذا اللون من أغاني الحزن أحياناً، بالندب ويرى الأستاذ "محمود الذخيرة" أنه امتداد لما كان يسمى بالجاهلية بـ "النصب"، ويقول في ذلك عندما جاء الإسلام وقضى على الكثير من التقاليد الجاهلية، بقي "النصب" عند بعض القبائل، حيث تقوم النساء بنصب عود من الخشب وتلبسه حلة الرجل المتوفى ثم يتبارزن في رثائه:

على أهل المرتبة والسيط عالي/ عمد بلوط بيت الشيخ عال

حلف دهن المزابد ما يحطو/ إلا من الظرف صافي زلال

ومع أننا أردنا أن نتجاوز هذا الجنس الشعري دون إضاءة، وذلك لأن طقوسه اندثرت ولتلك الصورة الحزينة السوداء التي احتواها، وتلك المسحة المأساوية المؤثرة التي أحاطت به، ولإدراك أهالي الريف الرقي لحقيقة هذه العادة شبه المنبوذة، وتمشيّاً مع ذلك القالب الحضاري الذي توصل إليه العالم اليوم، إلا أننا آثرنا الإشارة إليه، ودراسة جانب منه، وذلك لما حملته تلك الأشعار من صور جميلة وحكم وحث على الأخلاق الحميدة، والسيرة المحمودة، لأنها الوحيدة التي تبقى للإنسان بعد أن تختطفه يد القدر من حياته الدنيوية.

المصادر:

• المحيط في الأدب، تأليف "جبران مسعود"، دار المكشوف، "بيروت" /1970/.

• الشعر الشعبي الرقي بين الأصالة والتقليد، تأليف "محمد الموسى الحومد"، مخطوط قيد الطباعة.

• شعراء الموليا في القرن العشرين، تأليف "محمد الموسى الحومد"، دار الغدير، "سلمية"، عام /2000/.