العيد هو العيد بكل مكان في العالم الإسلامي، من حيث كونه فرحة تعم النفس، وسكينة تنزل عليها، وكان من الطبيعي أن تتمايز طرق التعبير عن هذا الفرح، وهذه الطمأنينة، من بلد إلى آخر، باختلاف الحياة الاجتماعية، التي تلعب الدور الأكبر ببلورة طرق الفرح والحزن، وكافة أشكال التعبير الإنسانية، ومن هذه البقاع تمتعت "الرقة" بخصوصية التعبير عن الفرح عموماً، وفرحة العيد بشكل خاص، وشاركتها بذلك أغلب المحافظات الفراتية، وكانت هذه فرصةً للتعرف على طقوسه في محافظة "الرقة".

مدونة وطن eSyria التقت بتاريخ 6/12/2008 الباحث الأستاذ "حمصي فرحان الحمادة"، فسألناه عمَّا يختزن بذاكرته عن العيد في مدينة "الرقة"، فأجابنا قائلاً: «كانت الفرحة بالعيد فيما مضى من الزمان مختلفة نسبياً عن أيامنا هذه، فإيقاع الحياة السريع في هذا الزمان كان له الدور الكبير في جعل العيد أحياناً، بعيداً عن كونه مناسبة دينية، أقرب ما يكون ليوم امتحان بالنسبة لربِّ العائلة، التي يتفنن أفرادها بالأماني والطلبات، متناسين أن الفرحة جوهرها البساطة، ورداؤها ابتسامة طفل صغير، على عكس أيامنا حيث كنا ونحن أطفال نخترع الفرح اختراعاً من أدوات بسيطة للغاية، وما زلت حتى الساعة أستطيع تذوق طعم تلك الفرحة، واستيضاح لونها، وأذكر لكم بعض أشكالها، فلقد كان لدينا في العيد ما تعرفونه أنتم بصندوق العجائب، أما نحن فكنا نسميه بـ"انظر بعينك وشوف"، وهو عبارة عن صندوق خشبي يجلس أمامه رجل يحفظ السير الشعبية عن ظهر قلب، وهو مزود من الجهة المقابلة بثلاث فتحات يجلس قبالتها ثلاثة أطفال، يحدقون بتلك الفتحات، ليروا صوراً لـ"عنترة"، و"الزير سالم"، و"ليلى المغربية"، و"علي الزيبق"، وكان صاحبه يروي القصص عن أولئك الأبطال بطريقة تروق لما نختزن عنهم في أذهاننا، التي التقطت أخبار بطولاتهم من حكايا ليالي الشتاء الطويلة التي كانت ترويها لنا جداتنا، وقد انقرض هذا الطقس واندثر منذ فترة بعيدة، وأذكر فيما أذكر من طقوس العيد في "الرقة"، وجود العربة الخشبية التي يجرها الحصان، إذ كانت تقوم برحلتين مقلةً الأطفال على متنها، إحداهما إلى مدخل مدينة "الرقة"، المعروف عندهم باسم "المقص"، والرحلة الثانية إلى مقام "أويس القرني"، وكانت أقل أجراً من الأولى، فكنا نقصدها للتقليل من مصروف جيبنا كي يتسنى لنا أن نستمتع بكل وسائل المتعة الأخرى في المدينة».

كان الناس ينسون أحقادهم وخصوماتهم في يوم العيد، فهو يوم الرحمة، فمن كان متخاصماً مع أخيه أو جاره، يقوم أصحاب الرأي والمشورة بجمعهما معاً، وطي الخلاف وفتح صفحة جديدة، وكانت العائلات في "الرقة" في اليوم الأول من العيد، تقصد البيت الكبير للغداء، وهي حالة إنسانية نفتقدها اليوم في حياتنا الصناعية التي فرضتها علينا طبيعة الحياة في هذا العصر

ويتابع "الحمادة" وصفه لطقوس العيد في محافظة "الرقة" بالقول: «كانت زيارة القبور من الأمور التي تعد من مفاتيح يوم العيد، فمن لم يذهب لزيارتها منا كان يقضي بقية يومه بمصروف جيب قليل، فلقد كنت أذهب مع والدتي رحمها الله، قبل شروق الشمس مصطحباً معي "المصحف الشريف"، كي أقرأ سورة "يس" على قبور أمواتنا، وبعد انتهائي من ذلك، كانت بعض النسوة ممن لم يجلبن معهن من يقرأ لهن القرآن على قبور أمواتهن، يطلبن مني ومن بقية الأطفال الذين يجيدون قراءة القرآن، قراءة سورة "يس"، وعند انتهائنا من ذلك يقمن بإعطائنا ما تيسر من مال حملنه لهذا السبب، وقبيل شروق الشمس نرجع إلى بيوتنا، ويبدأ الرجال بالتوافد إلى القبور أيضاً، بعد أن تكون النسوة قد غادرن، وعند وصولنا البيت نعمد فوراً إلى أمكنة نومنا، فنرفع الوسائد لنخرج لباس العيد الجديد، الذي كان عبارة عن ثوب مخطط بألوان نباتية غالباً، وصندل جديد، وكان هذا الثوب أحد أكبر أسباب الفرح بالعيد، إذ لم نكن نشتري الثياب الجديدة إلا من العيد حتى العيد الذي يليه، وبعد ارتدائنا تلك الثياب ننزل بشكل جماعات، إلى السوق الذي كان مختصراً بشكل كامل بشارع "القوتلي"، لنجد كل وسائل الترفيه إن صحَّ تسميتها كذلك، وهي بزماننا كانت أكثر من ذلك، ففي إحدى الزوايا كان بعض "القرباط" قد أتوا بقرودهم المدربة، التي كانت تدهشنا بعروضها، وكم كنا نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم منها، ففكرة المسخ إلى القرد بالنسبة للعصاة كانت من ضمن ثقافتنا الدينية في هذه المنطقة، وكان مدربها يتكلم معها فيقول لها: (نامي نومة الكسلان)، فتضطجع على جنبها وتتمطى بحركات تضحكنا من الصميم، ثم يقول لها: (نامي نومة الأرملة)، فتفعلها وتنام بين تصفيق الحاضرين ودهشتهم، ثم يبدأ القرد بالمرور على الحاضرين حاملاً بيديه قبعة توضع فيها النقود، كلٌّ على قدر جيبه».

الباحث الأستاذ "حمصي فرحان الحمادة"

وعند سؤال "الحمادة" عن أماكن الفرح الأخرى بالعيد، في المدينة غير شارع "القوتلي"، فأجاب: «كان في كل حارة من حارات "الرقة"، يوجد أرجوحة خشبية ندعوها في "الرقة" باسم "الليلي"، ينصبها صاحبها منذ الصباح الباكر، وبذلك يكون قد حجز مكاناً له، يمنع الاقتراب منه من أصحاب "الكار" نفسه، وفي حارتنا كان السيد "مطر المحمد الحمادي" ينصب أرجوحته، وكنا نذهب إليه فنركبها ويبدأ بمرجحتنا، وهو يغني لنا قائلاً:

(يا حجّ "محمد" يويا والديك مصمّد يويا

الولائم في العيد

مصـمد مصرية حــدّ الـربعية

والربـع غـالي مابـي مـصاري

ذبح الأضاحي في العيد

مصـاري العيد عـمي "ســعيد"

الاستعداد لذبح الأضاحي.

"سـعيد" ما مات خـلَّف بـنـات

بـناتـو سـود مـثل الـقـرود

ويا حج "محمد" يويا...)

وبالإضافة لذلك وبعد أن تقترب الظهيرة، يقوم أصحاب القرود بالتجول في حارات "الرقة"، بحيث من لم يتسن له مشاهدتها يتيسر له ذلك».

وعن الطقوس التي انقرضت في يوم العيد، يضيف: «انتشرت بزماننا فرق صوفية، كان أشهرها الفرقة "القادرية" نسبة للشيخ "عبد القادر الجيلاني"، وكانت تلك الفرق تقصد مقام "أويس القرني"، وتبدأ المحان بين بعضها البعض، وتبرق الرايات الخضراء والسوداء، المرفوعة على أسنة الرماح، ثم يبدأ طقس الضرب بالسيوف، أو ما يعرف عند أهل "الرقة" بـ"الشيش"، ومن الطقوس التي تكاد تنقرض، هو الاجتماع الذي يعقب صلاة العيد، ويكون في بيت أحد الوجهاء، أذكر منهم المرحوم "صادق الفواز"، فبعد خروج الناس من صلاة العيد في جامع "الشراكسة"، كان الناس يقصدون بيته القريب من الجامع، حيث يكون قد جهَّز بوقت لاحق الولائم لاستقبال الضيوف والمهنئين بالعيد، كما كان من الطقوس التي قلَّت كثيراً، هو الزيارة التي يقوم بها وجهاء العشائر لعشائر أخرى، فيقوم الآخرون برد الزيارة في اليوم التالي».

ويختم حديثه بالقول: «كانت البساطة هي ركيزة الفرح الذي كنا نعيشه في أيامنا، إذ كان الفرح ينسل إلى قلوبنا قبل عدة أيام عندما تبدأ النسوة بالاجتماع في أحد البيوت لخبز كعك العيد، الذي يعرف عندنا باسم "الكليج"، ليأخذنه لاحقاً للفرن، كي يتم نضجه، ثم قبيل ليلة العيد، تقوم نساء كل حارة من الحارات التي كانت "الرقة" تتكون منها، بتنظيف الحارة وكنسها، ثم رشها بالماء المنزوح من الآبار المنتشرة في البيوت، فتبدو الحارة صبيحة يوم العيد نظيفةً وجميلة، وكان بعض المقتدرين في المدينة يقوم بذبح الأضحيات، التي يقوم بتوزيع لحمها كما يأمره الشرع بذلك، سقى الله تلك الأيام ما كان أجملها، وجعل الله كل أيامكم أعياداً».

أما ما يحمله العيد من تراحم ومودة، فيحدثنا عنها الجد "قصي هملو" فيقول: «كان الناس ينسون أحقادهم وخصوماتهم في يوم العيد، فهو يوم الرحمة، فمن كان متخاصماً مع أخيه أو جاره، يقوم أصحاب الرأي والمشورة بجمعهما معاً، وطي الخلاف وفتح صفحة جديدة، وكانت العائلات في "الرقة" في اليوم الأول من العيد، تقصد البيت الكبير للغداء، وهي حالة إنسانية نفتقدها اليوم في حياتنا الصناعية التي فرضتها علينا طبيعة الحياة في هذا العصر».

(*) تم تحرير المادة 13 /12/ 2008