"الرقة"، اسم مكان وتلفظ بفتح الراء وتشديده في المعاجم، وتعني لغوياً كل أرض إلى جانب النهر يمتد عليها الماء، أيام المد، ثم ينحسر، وجمعها رقاق، والواحدة منها رقّة، و"الرقة" هي أيضاً الأرض اللينة التراب، وقال الأصمعي: "الرقاق، الأرض اللينة من غير رمل"، وأنشد:

كأنها بين الرقاق والخمر إذا تبارين شآبيب مطر

.. أظنهم ثنوّا الرقة والرافقة كما قالوا: العراقان للبصرة والكوفة

وأورد "ابن فضل الله العمري" في كتاب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)، ط القاهرة /1924/ ج1 ص/35/ - نقلاً عن الثعالبي-: «... فإذا كانت الأرض لينة، من غير رمل، فهي الرقاق»، وفي (الأعلاق الخطيرة)، "لابن شداد" ط دمشق، ج /3/ ص./69/ قال: «..إنما سميت "الرقة" لأنها على شاطئ الفرات، وكل أرض تكون على الشط ملساء، مستوية فهي رقة».

قصر البنات

و"الرقة" رقتان؛ "الرقة" البيضاء و"الرافقة"، أو "الرقة" السمراء و"الرقة" الحمراء، أو "الرقة" البيضاء و"الرقة" السوداء، وآخر هذه الرقاق "رقة واسط" في الجهة الشامية و"رقة الرشيد" الواقعة بين الضلعين الشرقي والشمالي لسور "الرافقة" و"توتول" (تل البيعة)، وقد ذكر "ياقوت الحموي" الرقتين، وقال: «إنهما "الرقة" و"الرافقة"»، و"الرافقة" في بنائها تعود للفترة العباسية، وهي المدينة التي بناها "المنصور"، وإنّ ما ذهب إليه "ياقوت" يكون صحيحاً في الفترة التي تلت بناء مدينة "الرافقة"، ويقول ياقوت بهذا الصدد: «.. أظنهم ثنوّا الرقة والرافقة كما قالوا: العراقان للبصرة والكوفة». وقد أورد "ياقوت" بيتاً من قصيدة للشاعر الرقي "عبيد الله بن قيس الرقيات" حيث يقول في قصيدة وجهها إلى "عبد الله بن جعفر بن أبي طالب" مطلعها:

ذكرتك أن فاض الفرات بأرضنا وجاش بأعلى الرقتين بحارها

سور الرافقة

وبما أنّ شاعرنا هذا كان قد توفاه الله سنة /704/م، فإنّ عهده يكون سابقاً لزمن بناء "الرافقة" التي شيدها الخليفة "المنصور" سنة /155/هـ/772/م، لذلك نؤكد على أنّ لفظ الرقتين، ورد في بيت الشعر السابق، قبل بناء الرافقة بزمن ليس بالقصير. وهناك أحداث أخرى كثيرة وردت في السياق التاريخي، التي تشير كلها إلى ورود لفظ الرقتين، مما يؤكد أنّ هذا اللفظ كان وارداً عند المؤرخين العرب، منذ أوائل العصر الإسلامي. وفي بداية العصر العربي الإسلامي، كان اسم "الرقة" البيضاء، قد ورد على لسان "سهيل بن عدي"، حيث قال يوم فتح "الرقة":

أخذنا "الرقة" البيضاء لما رأينا الشهر لوّح بالهلال

جانب من جامع المنصور (العتيق)

ويعود تاريخ بناء "الرقة" البيضاء، إلى عام /280/ق.م (الفترة الهلنستية)، وقد سماها الإغريق بـ"نيقوفوريوم" وتعني (هبة المنتصر)، وفي الفترة الرومانية أطلق عليها إسم "كالينيكوس"، وفيما بعد أطلق عليها العرب السريان اسم "الرقة البيضاء"، وهي ذاتها مدينة "الرقة" التي فتحها العرب بقيادة "عياض بن غنم" سنة /17/هـ/639/م، وهي ذاتها التي استقبلت مجموعات كبيرة من العرب المسلمين الجدد، الذين أقاموا فيها جنباً إلى جنب، مع أخوتهم من العرب المسيحيين، وهؤلاء كانوا سكانها الأصليين، والجميع شرعوا في بناء مدينتهم، التي اتسعت رقعتها، وأصبحت فيما بعد سبع مدن متجاورة، ولقد أتينا على ذكرها فيما سبق من كلام، وبذلك كانت "الرقة" قاعدة ديار "مضر" في الجزيرة السورية العليا.

وفي "الرقة" مقبرة "أويس القرني"، التي تعتبر من المقابر الأولى في العصر العربي الإسلامي، حيث دفن فيها الصحابي الجليل "عمار بن ياسر"، والتابعي "أويس القرني" والصحابي "أبي بن كعب"، وقبلهم عاش ومات فيها صاحب رسول الله "وابصة الأسدي" (رضي الله عنهم جميعاً)، ومشى على أرضها الإمام "علي بن أبي طالب" (عليه السلام). ومن المساجد الأولى التي شيدت في "الرقة البيضاء"، نأتي على ذكر مسجدها الكبير، الذي يعتبر من المساجد الأولى في الإسلام وكان يسميه أهل "الرقة" (جامع المنيطير) ومساحته /100×100/م وهي نفس مساحة مسجد المنصور بـ"الرافقة" ("الرقة" الحالية)، وقد شيد مسجد "الرقة البيضاء" سنة /20/هـ/641/م، وذلك في عهد واليها الثاني "سعيد بن عامر بن حذي"، أيام الخليفة "عمر بن الخطاب" (رضي الله عنه). ومن المساجد الأخرى التي شيدت في "الرقة البيضاء"، المسجد المعلق، ومسجد الجنائز، ومسجد "ابن الصباح"، ومسجد "قريش"، ومسجد بني "وابصة".. وبالقرب من مسجد "قريش" شيد بنو "أمية" دار الرماح، وكانت أحد الدور العظيمة، وأحد المعالم البارزة في "الرقة البيضاء".

واستمرت "الرقة البيضاء" تتمتع بحرية المعتقد الديني في ظل حكم بني "أمية"، واستفادت من موقعها الجغرافي الذي أهلها أن تكون، محطة تموين مهمة للجيوش العربية القادمة من الشام إلى العراق، وأهلها هذا الموقع أن تكون سوق تجارية كبيرة بين الجزيرة والعراق والشام. وقد اشتهرت بمنتجاتها من الحبوب والبقوليات وزيت الزيتون والخل والعسل. وكانت أسواقها كبيرة ومشهورة، ومنها سوق العطارين الذي ذكره "الأخطل" بقوله:

إذا "الرقة" البيضاء لاحت بروجها فدى كل عطار بها أم "مريم"

وكان أكبر وأعظم أسواقها سوق "هشام" العتيق، وقد ذكره ياقوت الحموي بقوله: .. وكان سوق "الرقة" الأعظم، فيما مضى، يعرف بسوق "هشام" العتيق»، "ياقوت الحموي"، معجم البلدان، مجلد /4/ ص/208/، وكان فيها أسواق أخرى مثل، سوق الأحد، وسوق البزازين... ويصف "المقدسي" الرقة في كتابه (أحسن التقاسيم) ص/141/ بقوله: «... غير أنها طيبة نزهة، قديمة الخطة، حسنة الأسواق، كثيرة القرى والبساتين والخيرات، ومعدن الصابون الجيد والزيتون، ولها جامع عجيب، وحمامات طيبة. قد ظللتها أسواقها، وبريقت قصورها، وانتشر في الإقليمين ذكرها، فالشام على تخمها، والفرات إلى جنبها، والعلم كثير بها». هذا وقد اشتهرت "الرقة" بتصدير الصابون والزيت وأقلام الرصاص وصناعة ريش الكتابة المعدنية. كما اشتهرت "الرقة" بصناعة الأدوية، ويذكر "ابن الفقيه" في كتابه مختصر البلدان، ط "ليون" بفرنسا سنة /1302/هـ ص/134/، شهرة بعض المحلات في أسواق "الرقة" ببيع دهن يسمى (الخطارة) وهو دواء يستعمله الناس لدواء أمراض (الروماتزم والنقرس).

وحين استلم العباسيون دفة الخلافة، أمر الخليفة "المنصور" ابنه "المهدي" ببناء مدينة بالقرب من "الرقة البيضاء" على أن تكون رفيقة لها، وسماها "الرافقة"، والتي انتقل إليها اسم "الرقة" فيما بعد. لقد شيد المهندس "أدهم بن محرز" مدينة "الرافقة" على بعد /300/ ذراع غرب "الرقة البيضاء"، وجعل لها مخططاً على شكل نعل الفرس، يلفها سور شيد من مادة اللبن، ولفح بمادة الآجر المحروق، طوله /5 كم/، وبعرض /6 م/، وارتفاع/9 م/ تقريباً، وجعل له ثلاث بوابات، لم يبقَ منها سوى واجهة باب "بغداد" في الزاوية الجنوبية الشرقية من سور المدينة. كما أمر "الخليفة المنصور"، ببناء مسجد كبير أبعاده /100×100/م، وهو يشبه مسجد "الرقة البيضاء" في أبعاده، كما شيدت مجموعة من القصور، لم يبقَ منها إلاَّ قصر البنات، الذي حول في القرن الثالث عشر ميلادي إلى مدرسة طبية (بيمارستان). إن جميع هذه المنشآت الأثرية المعمارية رممت بنسب مختلفة، وتخضع حالياً لعناية من قبل الجهات ذات العلاقة بالموضوع. وحين استلم "الرشيد" سدة الخلافة في العقد الأخير من القرن الثامن الميلادي، نقل مركز الخلافة من "بغداد" إلى "الرقة"، وقام بتشييد مدينة خارج الأسوار، وما أن دخل القرن التاسع الميلادي، حتى توسعت هذه المدينة مدينة "الرشيد" الجديدة، وأصبحت مساحتها /4×5كم/، ومازالت أطلال قصور "الرشيد" ظاهرة للعيان، ومنها قصر "الرشيد" المطل على الفرات من جهة الجنوب. ومع مجيء "الرشيد" إلى "الرقة"، "الرافقة"، انتقل معه مجموعة كبيرة من العلماء والفقهاء والشعراء، وجمعيهم شكلوا شموعاً أضاءت سماء وفضاءات "الرقة" آنذاك. وفي عهده أصبحت "الرقة" مركز إشعاع فكري وعلمي، إذ تخرّج في مدارسها أدباء ولغويون وشعراء وفقهاء وقضاة وفلاسفة وأطباء ومحدثون. وظلت "الرقة" حتى خرابها على يد المغول عام /1258م/، نشطة في حركتها العلمية والأدبية، ومركزاً هاماً من مراكز العلم والأدب، ونبغ اسمها في كافة المجالات، وكان أبناؤها يحملون نسبتهم إليها الرقي أو الرقيون في مختلف عصورها من الفقهاء والعلماء والأدباء والشعراء، وصناع الفخار والزجاج وغيرهم من أصحاب المهن. وكان الكتاب والعلماء والفقهاء والشعراء، الذين قدموا إلى "الرقة" في زمن "الرشيد" من جميع أنحاء الخلافة، وأقاموا فيها مدداً مختلفة، وبعضهم سكنها حتى ساعة وفاته، فإنهم ظلوا يحملون اسم الرقي أو الرقيون، وأنّ كل من عاش فيها، واستنشق من هوائها العليل، وشرب من ماء فراتها العظيم من الأدباء والشعراء، إلاّ وتذكرها في شعره وأدبه وكتاباته، وجميعهم ذكروا محاسنها وجمال طبيعتها وآداب وأخلاق أهلها. لقد قام الأدباء والشعراء والمفكرون الذين أقاموا في "الرقة"، بتغذية الحركة الفكرية والأدبية فيها، وأبدوا تعاوناً طيباً مع أدبائها، وهذه الحالة من التعاون المثمر بين أولئك وهؤلاء، خلقت مناخاً فكرياً وعلمياً واسعاً، تميزت به "الرقة" عن غيرها من المدن الأخرى... وفي القرنين/11/ و/12/م اشتهرت "الرقة" بإنتاج الزجاج الخزف، ومن يزور المتحف البريطاني ومتحف (المتروبوليتان) بأمريكا، ومتحف "اللوفر"، في "باريس"، سيرى هناك قاعات خاصة بعرض الزجاج والخزف الرقي، هذا إلى جانب ما هو معروض في متاحف "دمشق" و"حلب" و"الرقة"، ويعتبر الزجاج والخزف المكتشف في "الرقة" من النوع الممتاز، وقد اكتشف المنقبون مفاخر وأفران إنتاج هذا الزجاج في "الرقة"، منذ أوائل ثمانينيات القرن المنصرم، وتمتد هذه الأفران على مساحة من الأرض طولها /3كم/.

لقد أكثر الشعراء الذين عاشوا في "الرقة" على مر العهود، من ذكرها ووصفها والتغني بها من ذلك قول "ربيعة الرقي":

حبذا "الرقة" داراً وبلد بلد ساكنه ممن تودْ

ما رأينا بلدة تعدلها لا ولا أسْمَعنا عنها أحد

وقال "الصنوبري" في وصف الرقتين:

واهاً لرافقة الجنوب محلّةً حَسُنَتْ به أنهارها وجنانُها

يا بلدةً ما زال يعظم قدرُها في كل ناحية ويعظم شأنها

أما الفرات فانه ضحضاحها أما الهني فانه بستانها

وكأنّ أيام الصبا أيامها وكأنّ أزمان الهوى أزمانها

دُمرت حضارة "الرقة" وحضارة المدن السورية الأخرى في عام /1258/م، من قبل الغزاة المغول، وظلت "الرقة" خراباً وصفيراً للرياح فترة طويلة من الزمن، حتى هاجرت إليها أقوام ودماء عربية جديدة، إبان الاحتلال العثماني لسورية /1525/م، واستطاعت هذه الأقوام الجديدة أن تستقر على أرض "الرقة" بعد كفاح ونضال طويلين. وفي سني الثورة استطاعت "الرقة" مع أخواتها من المدن السورية الأخرى أن تتطور وتتقدم بنسب متفاوتة، وبعد قيام الحركة التصحيحية المجيدة، وقيام سد الفرات أصبحت "الرقة" من المدن المهمة في سورية، حيث كثرت فيها المشروعات الاقتصادية، واستصلحت فيها مئات الألوف من الهكتارات الزراعية وتوسعت رقعة المدينة، وارتفع عدد السكان من /20000/ ألف مواطن في عام /1969/م إلى أكثر من /300000/ ألف مواطن في عام /2007/م، وأنشئ فيها سدين جديدين، سد البعث وسد تشرين، وانتقل إليها مئات الألوف من المواطنين من المدن السورية الأخرى، والجميع عملوا ومازالوا يعملون بجد وإخلاص لرفع شأن مدينتهم "الرقة" ذات التاريخ العريق والمجيد.. وفي عام /1981/م حصلت مدينة "الرقة" على جائزة المدن العربية، كأفضل مدينة عربية في حفاظها على التراث والآثار. والآن أصبحت "الرقة" قبلة للثقافة العربية.. ها هي "الرقة" درة الفرات... أفلا تستحق منا أن نحترمها وأنْ نجلها؟!!.