يظل "الفرات" عبر تاريخه الطويل شريان الحياة بالنسبة للمالك والحواضر التي نشأت على ضفافه. وكان الوسيلة الوحيدة للتجارة النهرية. في الألف الثاني قبل الميلاد حدثت حوادث كثيرة أثرت على التجارة وطرقها, ومن هذه الحوادث الصراع بين "يخدون - ليم" والبنيامين, وحملته نحو الغرب, وكذلك احتلال " شمشي- هدد" لمملكة "ماري" في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وتقدمه نحو الغرب أيضاً, ومرة أخرى عودة " زمري - ليم" إلى عرش مملكة "ماري".

إنّ مثل هذه الأمور الهامة لابد وأنها قد ساهمت بشكل أو آخر في تغيير الواقع السياسي في منطقة "الفرات" الأوسط بشكل خاص, ومنطقة المشرق العربي بشكل عام.. وجراء ذلك نشأت آنذاك تحالفات وارتباطات جديد, فمثلاً كانت "كركميش" والممالك المجاورة لها على علاقات جيدة مع "شمشي ـ هدد", بيمنا تفككت التحالفات بين ممالك ومدن حوض "الفرات" من "إيمار" حتى "ماري". وهذه الممالك والمدن هي: "كركميش", "إيمار", "أباتم", "توتول", "سمانم", "ترقة", "ماري", "بوزوران", "هانات" (عانة), "يبيليا", "هيت", وتغيّر أيضاً مسار الطرق التجارية النهرية والبرية التي كانت على نوعين, إما نهرية أو برية.

..بأنّ الشحنة سوف تُرْسَلْ إذا كانت هناك سفن في "إيمار" جاهزة للحركة بعكس التيار

وهذا يقودنا للحديث عن الملاحة في "الفرات" وقوافل الحيوانات, وفي مقدمتها قوافل الحمير, وهي كثيرة وكثرتها هذه تؤكد امتلاك "إيمار" (مسكنة الحالية) لقوارب النقل النهرية التي لم تكن وسيلة النقل الوحيدة, إذ نجد أنّ سكان "إيمار" قد استخدموا أيضاً قوافل الحيوانات, ونستدل على ذلك من إحدى رسائل "زاكيري - همّو" حاكم "قطونان", (مجهولة المكان) التي ورد فيها ذكر عن قافلة من الحمير قادمة من مدينة "توتول" تل "البيعة" وهي تحمل الزيوت, ومتجهة نحو "كردة" الواقعة إلى الشرق من نهري "الخابور" و"جغجغ", وقد احتجز ملوك كل من "يمحاض" "حلب", و"كركميش", و"ماري" مثل هذه القوافل رداً على ما كانت تقوم به "إيمار" من إجراءات ضد هذه الممالك.

خريطة تبين نهر الفرات والحواضر التي عليه

وإلى جانب قوافل الحمير, كان أهل "إيمار" يستخدمون أيضاً قوافل العربات التي تجرّها الثيران, وذلك حسب ما جاء في رسالة "صدقتم ـ لاناسي", (الحصانم), أي سفير أو ممثل الملك "زمري ـ ليم" لدى بلاط "كركميش", وله أيضاً عدة رسائل إلى أغلب ملوك "ماري", حيث يؤكد فيها أنّ العربات التي تجرها الثيران, كان السكان يستخدمونها في نقل محصول العنب وكافة أنواع الحبوب. وهذا ما يميّز النشاط التجاري الإيماري عن النشاط التجاري في "كباد" و"كيا" الأناضولية, تركية الحالية. أما الملاحة النهرية واستقلال أنهر كبيرة مثل "دجلة" و"الفرات" وروافدهما, فالمعلومات عن حوض "دجلة" الأعلى مثلاً ضحلة ونادرة, ولكن من المرجح أنّ مدينة "آشور" والمدن التجارية الأخرى, قد اقتدت بـ"إيمار", كونها صاحبة خبرة كبيرة في هذا المجال, وجنت أرباحاً طائلة استخدمتها في بناء أسطول تجاري كبير وهام كما ذُكِرَ في الوثائق.

وتفيد النصوص الكتابية المسمارية إنّ الأرباح التي حققتها "إيمار" من العمليات التجارية, سمحت لـ"إيمار" ببناء وترميم أسطول تجاري هام, قدّم خدمات لأُناس كُثرْ عن طريق الاستئجار, وهم لم يذهبوا به بعيداً للمبادلات التجارية, بل بحثوا عن تأمين الحاجات الضرورية عن قرب, وتأمين نقل المواد التي يكونون قد حصلوا عليها من الخارج, وذلك حسب توجيهات الملك "اشوم - دجن". هذا الأمر كان أيضاً ينطبق على مملكة "ماري".

صورة حديثة لنهر الفرات من الجو

وتشير الوثائق أيضاً إلى أنّ السكان الذين تكون متطلباتهم المنزلية متوفرة بشكل دائم ومستمر, ولم تكن لديهم رغبة في العمل التجاري, نجدهم قد عزفوا عن امتلاك سفن على شكل أسطول دائم ومعتبر, علماً أنهم كانوا يستأجرون السفن التي تؤدي الغرض المطلوب, ولكن بأسعار كاوية, وتشير إحدى رسائل الملك الآشوري "شمشي - هدد" إلى أنه نتيجة للتكاليف الباهظة للنقل, فقد طلب من ابنه بناء مراكب وتجهيز أسطول صغير لهذه الغاية.

ويقول الباحث الآثاري "حميدو حمادة"، أستاذ اللغات الشرقية في جامعة "حلب" في ترجمة نص مسماري: «إنّ "ماري" كمملكة كانت فقيرة تجارياً, وأنّ جُلّ أرباحها تأتي من المنتجات الزراعية والضرائب». وفي نص رسالة للمدعو "أسكودم": «يطلب فيها بتجنيد كافة القوى العاملة ووسائل النقل النهرية لنقل الحبوب إلى القصر الملكي, تحت معاينة الصيادين», وللعلم أنّ هذه الرسالة كان قد وجهها "أسكودم" إلى "ينتين ـ هدد", وقد ردّ عليها بقوله: «بأنّ سفن الصيادين كانت ذات حمولة صغيرة».

نهر الفرات حالياً

وتشير إحدى وثائق ماري المترجمة من قبل "حمادة": «أنّ "سكاراتم", وهو المركز الإداري والمرفأ الهام عند نقطة التقاء "الفرات" برافده نهر "الخابور" كانت تمتلك عبارتين ذات حمولة كبيرة تصعدان في "الفرات" إلى مسافات بعيدة», وتشير الوثائق: «أنه حين طلبها ملك "ماري" لنقل مادة الاسفلت, لم يستطع إرسالها, لأنّ واحدة منها كانت تنقل نصباً إلى "لَسْقُمْ", والأخرى كانت في مهمة تجارية إلى "إيمار" في أعالي "الفرات"».

وأوضح قائلاً: «تفيدنا الوثائق التاريخية, أنّ تأجير واستئجار السفن على شتى أنواعها في "إيمار" كان معروفاً, وكانت السفن التي تتنقل بين "إيمار" و"سكاراتم"، وغيرها من المدن ذات أسعار عالية, وأنّ بدل الإيجارات هذا كان له دور كبير في ارتفاع أسعار الحاجيات ما اضطر الموظفون للتدخل والتفاوض لتخفيض أسعار الآجار أو لمنع التلاعب بالقيمة الشرائية للبضائع المنقولة».

كان النقل البري والنهري معمولاً به في منطقة "الجزيرة" السورية, وكان هناك تنافساً بين الجماعات العاملة في هذين المجالين, ولاشك ونحن نتحدث عن النقل البري والنهري في "إيمار" في الألف الثاني قبل الميلاد, بأنه كان هناك أيضاً تنافساً بين جماعة النقل البري والنهري آنذاك, إذ كانت تستخدم الطريقة الأولى لنقل البضائع ذات الأوزان الخفيفة, بينما الطريقة الثانية كانت تستخدم لنقل البضائع ذات الأوزان الثقيلة مثل جرار الزيت ذات الأحجام الكبيرة.

وكانت السفن تُسمّى نسبة إلى حمولتها ونوع البضاعة المنقولة, وقد فضل الملاحون وأصحاب هذه السفن اللجوء إلى الملاحة النهرية بإتجاه مجرى النهر والسير مع مجرى التيار, وفي حالة كان النقل بالاتجاه المعاكس, فقد لجؤوا إلى الطرق البرية, ونستدل من رسائل "أسكودم" أنّ الإيماريين قد استخدموا العربات والحمالين، ومختلف أنواع الحيوانات لنقل البضائع والمنتجات والمواد الأولية براً, أما النقل بالمراكب النهرية, فقد طبق بشكل عام في بلاد النهرين, وكذلك في كل من "إيمار" و"توتول" وفق نظام ملاحة مستقل, تحت إدارة وإشراف جمعيات ذات صفة تجارية وذلك حسب ما جاء في رسالة المدعو "أميل ¬- كوبي", حيث يقول: «.. وصلتُ "كركميش" لنقل جذوع الأشجار المُقطّعة, وقبل أنْ أصل "إيمار" ينتظرني ستين رجلاً لتمهيد الطريق, ويصعدُ باتجاهي مع الحرس ملاّح خبير بإرشاد السفن, وقد يكون من الصيادين وكذلك ثلاثين طوافة تكون جاهزة».

ومن هذه الرسالة نستشف ونستدل على أنّ تكاليف الخدمات كانت باهظة, وربما قد تتجاوز الربح, وفي إحدى النصوص إشارة إلى أنّه تِبعاً لمواسم الحصاد السنوية, فإنّ جميع السفن كانت تؤجر في "إيمار", ولا يمكن إطلاقاً الحصول على سفينة إلاّ بعد مرور خمسة أشهر تقريباً, وهي المدة التي يكون الأسطول منشغلاً أو غائباً. وغالباً ما تنقل الحبوب لمسافات طويلة بواسطة السفن, لكنها لا تذهب حتى "ماري", فهي عادة لا تذهب إلى أبعد من "توتول" (تل البيعة) و"حلبية", والخمسة أشهر هذه في الحقيقة تمثل الفترة الزمنية ما بين انخفاض مستوى الماء وارتفاعه, وبعد انتهاء موسم الحصاد, تنطلق السفن إلى أماكن أخرى, وذلك أثناء شهري أيار وحزيران, حيث يبدأ مستوى الماء بالانخفاض, وفي شهر تشرين الثاني من نفس العام, حيث يبدأ الماء بالارتفاع تعود الملاحة من جديد قبل أن يقوى ويشتد التيار مما يعيق الملاحة العكسية, وبهذه الحالة فعلى السفن أنْ تختار الزمن اليومي المناسب للعودة إلى الجهة المقصودة لتفريق حمولتها.. ويقول المدعو "ياسيم ـ سمّو" في رسالة له: «..بأنّ الشحنة سوف تُرْسَلْ إذا كانت هناك سفن في "إيمار" جاهزة للحركة بعكس التيار». أما المدعو "صدقم ـ لاناسي", فهو الآخر يخبرنا بأنّ أسعار السفن في "كركميش" (جرابلس) الحالية "تل برسيب" تختلف عنها في "ماري", إذ يقدر سعر السفينة الواحدة في "كركميش" بعشرة أضعاف ثمنها في "ماري", وحسب التصاوير الجدارية الآشورية كانت هناك سفن لها شكل القفة وهي مصممة وفق ضحالة وعمق مياه النهر, وهناك الأشكال الكلاسيكية, وهناك سفن مُصممة للإبحار مع التيار وبعكسه.