«ما أنقاها تلك الأيام، وما أجملها، تمر في البال مسرعةً كأنها حدثت البارحة، فأنا ما زلت ذلك الفتى الذي يغادر المدرسة، وفي ذهنه شقاوات سوف يمارسها، وترفُّ على البال وجوه سوف يلتقيها، وبين هذا وذاك كان هاجسٌ من حزن سرمدي يشدني إلى عذوبة صوت "الربابة" ـ كما صوت أمي ـ وهي تصدح من خلال آلة التسجيل، في بيتنا الكبير، حيث كان للمزاج لغة أخرى، ومعيار مختلف تماماً، فيه من عذوبة "الفرات" الشيء الكثير، وكنت حريصاً كل الحرص على أن يكون لي جو خاص أخلقه بعيداً عن كل تلك الأجواء، أنفث فيه رغبات نفسي التوَّاقةً لكل ما هو جميل، فكان أن خطرت لي فكرة صناعة "ربابةٍ" خاصةٍ بي، ومن حينها بدأت حكايتي مع "الربابة"، حكاية فيها من الألم والفرح ما جعل لحياتي طعماً آخر».

هكذا يبدأ السيد "حسن الوياس"، أشهر من اتخذ "الربابة" في محافظة "الرقة" رفيقةً، وحبيبة، حديثه لموقع eRaqqa عندما التقاه في منزله بتاريخ (3/6/2009)م، متحدثاً لنا عن ثقافة جيله آنذاك، وعن علاقته بآلةٍ ترتبط روحياً بموروث هذه المنطقة ومخزونها الاجتماعي "الربابة"، وما تمثله للفراتي عموماً، والرقِّي على وجه الخصوص من قيمة رمزية عالية».

كم أشعر بالحزن الشديد عندما أجد أنَّ الجيل الجديد عازف عن سماع هذه الآلة القريبة جداً من وجدان كل رقِّي، ففي ظل التقنيات الحديثة من وسائل البث والاتصال، فرضت آلات موسيقية كثيرة وجودها في هذه المنطقة بدعوى الحضارة، وأنا لست ضد هذا الأمر بالمطلق، ولكنني ممن يؤمنون بإحياء التراث، وبالمحافظة عليه في ظل هذا الهجوم الكثيف من ثقافات عدة، فلا بأس من أن نسمع الموسيقى بكل ألوانها، فهي لغة عالمية بالمحصلة. ولكنني أؤكد عدم استعدادي سلخَ جلدي تحت تأثير أيَّ مغريات كانت، وما يحصل اليوم أنَّ "الربابة" وظفت لغايات معينة أبسطها الكسب المادي، بدعوى إحياء لون من العزف الفراتي، لكنها لا تأخذ حقها من الاهتمام الرسمي الذي يجب أن تولاه حقيقةً

ويتابع حديثه بالقول: «كنت طالباً في المدرسة الإعدادية، وكان لي صديق يدعى "حسين العلي الجاسم"، وأذكر أننا ذات يوم خرجنا من المدرسة والحديث يدور بيننا عن نيته صنع آلة "الربابة" بشكل يدوي....

عند نبع عين العروس عندما كان متنزهاً لأهل الرقة

راقت لي الفكرة!! أنا الذي كنت مهووساً بتلك الآلة إلى حد الجنون، فطلبت منه تعليمي طريقة صنعها ففعل، ولم أكد أصل البيت حتى باشرت بجمع أجزائها، من قوس خشبي، وعصا، وعلبة معدنية، وشعر من ذيل حصان، يعلم الله وحده كيف تدبرته، وبدأت صنعها، ولكن لم يكن لها من صوت أثناء عزفي عليها، وشعرت بخيبة أمل كبيرة، التي لم ينقذني منها سوى شقيقي الأكبر، الذي عدَّل لي في تصميمها، فصدح صوت عزفها حاملاً هموماً ثقيلةً عن كاهلي. وكان ذاك اليوم ميلاداً لرحلة طالت حتى يومنا هذا، بيني وبين أوفى من صادقت، "الربابة" رفيقة أيامي، المرَّة منها والحلوة».

وعن الطريقة التي تعلم العزف بها على هذه الآلة يعاودنا ضيفنا الحديث بالقول: «كان بيتنا لا يكاد يخلو من سماع صوت "الربابة"، وكنت مستمعاً جيداً لشدة ولعي بها، فتطورت لي مع مرور الوقت قدرة على التفاعل معها حتى التماهي بها، فصرت أجيد التمييز بين الألوان الغنائية الفراتية بمجملها، وما أن امتلكت آلتي الخاصة حتى صرت أقضي الساعات الطوال من أوقات فراغي محاولاً إخراج تلك الأنغام المبعثرة في دماغي وقلبي بواسطة هذه الآلة، فمرةً أصيب، وأكثر المرات أخطأ، لكنَّ الوقت والإصرار كانا كفيلين بحل تلك المعضلة، فما دار الحول حتى صرت متمكناً من ألحان كثيرة كنت أعشق سماعها فيما مضى من أشرطة "الكاسيت".

نزهة فراتية

وتطورت صداقتي معها، حتى أضحت رفيقة سفري، تلك التي تؤنس وحدة الطريق الطويل بعيداً عن الأهل والخلان، أيام حلي وترحالي، فعندما أعزف لحناً فراتياً تتسابق صور أحبابي أمام مخيلتي كأني ما برحتهم أبداً».

أما عن حال هذه الآلة الموسيقية في هذه الآونة، فيقول ضيفنا "الوياس": «كم أشعر بالحزن الشديد عندما أجد أنَّ الجيل الجديد عازف عن سماع هذه الآلة القريبة جداً من وجدان كل رقِّي، ففي ظل التقنيات الحديثة من وسائل البث والاتصال، فرضت آلات موسيقية كثيرة وجودها في هذه المنطقة بدعوى الحضارة، وأنا لست ضد هذا الأمر بالمطلق، ولكنني ممن يؤمنون بإحياء التراث، وبالمحافظة عليه في ظل هذا الهجوم الكثيف من ثقافات عدة، فلا بأس من أن نسمع الموسيقى بكل ألوانها، فهي لغة عالمية بالمحصلة.

الربابة محور حياة الوياس

ولكنني أؤكد عدم استعدادي سلخَ جلدي تحت تأثير أيَّ مغريات كانت، وما يحصل اليوم أنَّ "الربابة" وظفت لغايات معينة أبسطها الكسب المادي، بدعوى إحياء لون من العزف الفراتي، لكنها لا تأخذ حقها من الاهتمام الرسمي الذي يجب أن تولاه حقيقةً».

ولأنَّ الألوان الغنائية الفراتية هي أبجدية حياة الرجل، يحدثنا عنها فيقول: «لكل منطقة من مدن سقي الفرات لون خاص بها تتميز به، مع اشتراكها جميعاً بطابع واحد هو تمازج الألم والحب والحزن، و"الربابة" ذات الخصوصية في هذا الباب، شقيقة ألوان غناء فراتي عذب، نذكر منها "العتابا"، ومن "العتابا" كانت الفراقيات، والغزل، كقولهم: ألف دكتور جرحني ما لمنو/ هلي والناس جملة ملَّو منو/ يا حيف تعبٍ تعبتو ما لي منو/ صفا للغير وآني النوح ليَّ/.

أما اللون الثاني الذي يغنى على "الربابة" فهو "النايل"، ومنه حويجة، عبيدي، ورادات، ونذكر من "النايل قولهم: جابم طبيب الهند ابرة وفتل بيدو/ شنشل جروح القلب هذن تواكيدو/.

كذلك يغنى على "الربابة" لون فراتي يدعى "السويحلي"، وهو لون قديم في هذه المنطقة، وأستطيع القول إنَّ محافظة "الرقة" تتميز بلون غنائي يغنى على "الربابة" تتفرد به عن كل مدن سقي الفرات، وهو ما يعرف باسم "اللقاحي"، ومنه "الولدة"، "الساجوري".

و"الربابة" آلة مطواعة باليد الخبيرة، والقلب الممتلئ إحساساً، وهي من يسيل دموع العشاق الذين كوتهم نار الحبّ، وهي من أطلق العنان لمخيلة شعراء الشعر الشعبي في الفرات وباديته، ولا أدل على ذلك من قولهم: حنِّي ياناقة..... حنِّي ياناقة...عل هالفراق الطال/ ول موكنا رفاقة....كنا رفاقة.... واليوم حدّ الشوف/، فأي قلب يحمل بين دفتي صدره، هذا العاشق، وأي هجرٍ جعله ينزف شعراً، ومع ذلك يبقي حبل الود مربوطاً ولا يقطعه، ومن غير "الربابة" رفعت إحساسه إلى هذه الدرجة من الشفافية».

وعن "الرقة" وأهلها، وما يحمله "الويَّاس" من ذكريات عن التركيبة الاجتماعية في المحافظة، يختتم ضيفنا حديثه لنا قائلاً: «كانت جلساتنا الفراتية تمتد أحياناً في فصل الصيف حتى ساعات الصباح الأولى، وكانت تنحصر تلك الأمسيات الفراتية على زمرةٍ من عاشقي هذا اللون، ومن جملتهم العازف "محمود الشحاذة"، الذي كان أغلب الأحيان يجاذبني العزف على "الربابة".

وفي تلك الجلسات كانت تفتح النقاشات عن "الرقة" أيام زمان، وطباع أهلها، إذ لم تكن "الرقة" بتوزعها الجغرافي، وتركيبتها السكانية، كما هي اليوم، وأذكر فيما أذكر أن بيوتاتها كانت تتوزع متفرقةً، لكنَّ أهلها كانوا في حال واحدة، ففي الليل كانوا يسهرون في بيت أحدهم، وتدار القهوة المرة، وتبكي "الربابة" ما شاء الله لها أن تبكي، ويطمئن الجميع على أحوال بعضهم البعض، ففلان سيزوج ولده، وآخر سيزوج ابنته، وفلان سيبني داراً، ناهيك عن احتفائهم بضيف جاءهم من بعيد بقصد الاستقرار، إذ كانوا يقتطعون له من أملاكهم، ليمنحوه قطعة أرض يساعدونه في بناء منزل له عليها، وكم كانت أيام نزهاتنا إلى نبع "عين العروس" جميلةً، فلقد كان هذا النبع قبل جفافه متنزهاً طبيعياً لأهل "الرقة".

أما اليوم فبفعل التطور الذي لحق بالمدينة مواكبة للعصر، فقدنا قيماً وعاداتٍ كثيرة نحنُّ إليها، بفعل العلاقات المبنية على المصالح بين الناس، التي فرضتها هذه المرحلة، رحم الله أيام زمان ما كان أروعها».

ويذكر أنَّ السيد "حسن الويَّاس"، هو من مواليد محافظة "الرقة" عام /1958/م، يعزف على آلة "الربابة" منذ طفولته، يعتبر ذو ذاكرة حيةٍ تموج فيها شتى ألوان الغناء الفراتي، شاعري في حديثه، ويمتلك بالإضافة لموهبته في العزف على "الربابة"، صوتاً جميلاً دافئاً يستمد من الفرات عذوبته، وهو متزوج وأب لعائلة حرص كل الحرص على أن تكون متميزة بأمانيها، فمن شابه أباه ما ظلم.