انخرط بعض المستشرقين الغربيين في حياة الصحراء العربية التي زاروها، لدرجة أنهم مارسوا طقوس عيشها، فألفوا أهلها، وتناغموا بالعيش معهم لدرجة أضحوا فيها أبناء حقيقيين للبادية بكل ما تعنيه هذه الكلمة، إذ كانت زيارة الشرق ومنذ قديم الزمان حلماً يراودهم، وكان الأمر في بداياته مقتصراً على الرجال دون النساء، وكان الشرق بالنسبة لهم عالماً من السحر، تلفه حكايا "السندباد"، وألف ليلة وليلة، تلك التي ترجمت إلى اللغة الفرنسية، ومنها انتقلت إلى الغرب، فكانت شخصياتها من العوامل التي أثرت مخيلة الغربيين برسم الصورة المغرقة في الخيالية للشرق، عالماً من السحر والحكايا.

وفي بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت بعض نساء أوروبا برحلات إلى الشرق، لاكتشاف تلك الصورة التي انطبعت في أذهان الغربيين عنه، وكان من بين تلك النسوة الرحالة "آن بلنت"، والكاتبة الشهيرة "أجاثا كريستي"، التي قدمت برفقة زوجها عالم الآثار السير "مالوان"، الذي عمل في مواقع أثرية تابعة لمدينة "الرقة"، وكان من بينهن أيضاً الليدي "جين دغبي"، التي تشكل قصتها قمة العشق الغربي للشرق وآثاره، حيث تركت وراءها كل جنان بلدها الأم إنكلترا، لتنصهر في حياة البادية بشكل تام، لدرجة خرجت فيها عن المألوف حتى أضحت شاعرة بدوية بامتياز.

لقد تمكنت بفضل مواهبها الأدبية التي ذكرنا بعضاً منها أن تنظم الشعر النبطي، ولها الكثير من القصائد التي ضاع معظمها، ومن قصائدها التي وصلت إلينا، قولها: يا ونتي ونة دوالب عجاجة/ يلعب بها سكر الهوى فوق مزعاجِ/ ياعين ريمٍ جافلة من زراجه/ ومجفلوا ريم العطاطيب بنواجِ/، ولشدة إعجابي بما نظمت تمثلتها بهذه الأبيات: يا جين دغبي يا هنوف الحماده/ اسموك "موضي" البين حير وهداجِ/ ياطيب قولك والقوافي إتّهاده/ تطرب لها الأرواح والقلب يفتاجِ/. ويتضح مما سبق ذكره عشقها للشرق وحكاياه، وهي التي هربت من مادية الغرب، لتجد نفسها أكثر في تلك الروحانية التي كان عنوانها الشرق، وهذا ما جعلها تعيش حياة البداوة التي تحب بصدق ومحبة

فهل العشق للشرق وسحره كان الدافع الوحيد لذلك التوحد مع حياة البداوة؟ أم أنَّ روحانية الشرق التي تغلبت على مادية الغرب في نفوس الغربيين هي من جذب الغربيين؟ وكيف تتحول رحالة غربية إلى بدوية تتزوج بدوياً وتعيش حياته، وتمارس نشاط المرأة البدوية بشكل كامل؟.

جين دغبي المصرب

موقع eRaqqa التقى بتاريخ (5/4/2009)م، الشاعر الأستاذ "محمود الذخيرة"، الذي بحث في سيرتها البدوية، وتحولها إلى شاعرة، ولشدة إعجابه بشعرها قام بمعارضة إحدى قصائدها، حيث بدأ قوله لنا: «الشعر لسان حال أهله، وما أثار إعجابي بشعر الليدي "جين دغبي"، هو قدرة هذه المرأة الإنكليزية على تقمص روح البداوة لدرجة أنك تحسب شعرها لبدوي ولد في قلب تلك الصحراء، وكتابة الشعر النبطي ليس بالأمر السهل بالمطلق، بل هو عصي حتى على أبناء الصحراء، ومن ينظمه منهم فقد أوتي موهبة من الله، ويعرف هذا الكلام من يقرأ هذا الشعر، ويدرك مدى عمق دلالاته، وروعة جرسه الموسيقي، الذي يحتاج للغة بدوية عالية، ومعرفة وثيقة بمكونات تلك اللغة.

وكان هذا الأمر واضحاً لدى هذه الرحالة من خلال إطلاعنا على رسائلها الأدبية، التي كانت تتواصل بها مع ذويها في الغرب، فهي تمتلك ناصية لغتها الأم، وهذا برأيي أحد أهم الأسباب التي مكنتها من نظم الشعر النبطي، ولا يعني هذا الكلام انسجام اللغتين البدوية والإنكليزية بحال من الأحوال، بل نقصد به أن التمكن من لغة ما يؤسس لدى الشخص ما يعرف باسم المنهجية الصحيحة في التمكن من لغة أخرى.

جين دغبي كما تخيلها الفنان

كما أنَّ الجانب الفني في الشخصية يلعب دوراً في ذلك، سيما إن عرفنا أنَّ "جين" كانت فنانة تشكيلية، وصاحبة منتدى أدبي في "باريس"، وربطتها علاقات مع الوسط المثقف في الغرب، ونخص بالذكر الكاتب الشهير "أونريه دي بلزاك"، الذي كانت "جين" بطلة لروايته "زنبقة الوادي"».

ويتابع "الذخيرة" حديثه لنا عن سيرة تلك الرحالة، وكيفية التقائها بالشيخ "مجول المصرب"، الذي صار زوجها لاحقاً، فيقول: «كانت بادية "تدمر" هي من يجذب السياح والرحالة الغربيين، ولكنها كانت طريقاً خطرة للغاية بالنسبة لهم، إذ أن بعض البدو من أهل تلك المناطق كان يجد في هؤلاء غنيمةً فيهاجمهم بقصد السلب والنهب، لذلك وجدت قبائل أخرى في حماية هؤلاء السياح باباً للكسب المادي من السلطات، إذ أن هذه الحماية كانت مأجورة، ومن تلك القبائل التي عملت بحماية السياح، كانت قبيلة الشيخ "مجول المصرب"، الذي أوكلت إليه مقابل مبلغ مالي معين مرافقة الليدي "جين دغبي"، من "دمشق" حتى "تدمر"، فتعرضت قافلتهم لغارة أبدى "مجول" فيها بسالة في الدفاع عن ضيفته، التي عشقته من حينها، فتزوجته بعد ذلك رغم أنها تكبره بسنوات، وأقامت معه في البادية، ترتحل أينما ارتحل، وتفعل ما تفعله الزوجة البدوية المطيعة لزوجها، فكانت تحلب النوق، وتمشي على الرمال حافية القدمين وهي ابنة القصور، سليلة العائلة البريطانية العريقة، وكانت تخضُّ اللبن بنفسها، وتعتني بالمرضى من أبناء القبيلة، فنالت محبتهم واحترامهم، وكان أن دعيت لجمالها بـ"أم اللبن"، أو "الموضي"، نسبة إلى وجهها الناصع البياض، ثم وبعد تقدمها بالعمر انتقلت إلى العيش في مدينة "حمص" بناءً على رغبة زوجها، ثم "دمشق" لاحقاً».

الشاعر محمود الذخيرة

وعن بعض شعرها النبطي، وما نظم هو من مجاراة له، يختتم "الذخيرة" قوله: «لقد تمكنت بفضل مواهبها الأدبية التي ذكرنا بعضاً منها أن تنظم الشعر النبطي، ولها الكثير من القصائد التي ضاع معظمها، ومن قصائدها التي وصلت إلينا، قولها:

يا ونتي ونة دوالب عجاجة/ يلعب بها سكر الهوى فوق مزعاجِ/ ياعين ريمٍ جافلة من زراجه/ ومجفلوا ريم العطاطيب بنواجِ/، ولشدة إعجابي بما نظمت تمثلتها بهذه الأبيات: يا جين دغبي يا هنوف الحماده/ اسموك "موضي" البين حير وهداجِ/ ياطيب قولك والقوافي إتّهاده/ تطرب لها الأرواح والقلب يفتاجِ/.

ويتضح مما سبق ذكره عشقها للشرق وحكاياه، وهي التي هربت من مادية الغرب، لتجد نفسها أكثر في تلك الروحانية التي كان عنوانها الشرق، وهذا ما جعلها تعيش حياة البداوة التي تحب بصدق ومحبة».

ويذكر أنَّ "جين دغبي"، ولدت في إنكلترا عام /1807/م، وماتت ودفنت في "دمشق"، عام /1881/م، وكتب على قبرها باللغة العربية (مدام دغبي المصرب).