كان الفرات ومنذ قديم الزمان موطناً لحضارات متعاقبة, على ضفافه عاش الإنسان عصوره الحجرية, ومارس الصيد والتقاط الثمار.

ثم دجًّن الحيوانات وبدأ في الزراعة والاستقرار, وتؤكد المكتشفات الأثرية أن منطقة الفرات كانت من أوائل مناطق السكن في العالم..!

وعلى ضفاف الفرات في محافظة الرقة, كانت تنتشر الغابات الطبيعية الحقيقية التي كان المعمرون يتحدثون عنها, كما تحدث عنها الرحالة الأجانب الذين زاروا المنطقة, ومنهم الإنكليزية آن بلنت في عام 1878 التي تشير إلى أن الغابات الفراتية غابات حقيقية واسعة تضم أنواعاً متعددة من الحيوانات منها الأسد البابلي, الخنازير البرية, الغزلان, الأرانب, وبنات آوى... والعشرات من أنواع الطيور..

لكن تلك الغابات أتى عليها الاحتطاب الجائر, وحُرقت أشجارها من أجل الزراعة, وهكذا اندثرت أنواع عديدة من الحيوانات, فالأسد لم يعد موجوداً منذ بدايات القرن العشرين, أما الخنزير البري فظل حتى الخمسينات.

وإذ قضي على بعض غابات الفرات (حوائجه), إلا أن العديد منها نجت من يد الإنسان, وظلت علامة على ماضٍ اندثر يؤكد حيوية البيئة وجمالها..

حوائج الفرات الطبيعية

الحوائج: لفظة عربية فصيحة الجذور وتعني جزر نهر الفرات, ومفردها (الحويجة) في لهجة الرقيين, و(الحويقة) في لهجة دير الزور, وهي ما أحاقت به المياه من كل جانب, وفي محافظة الرقة العديد من هذه الحوائج, وعددها 19 حويجة ممتدة على طول مجرى النهر, ومنها: حوائج أبو قبيع, وهي ثلاث حوائج متجاورة, وحويجة زهرة, وحويجة طاوي رمان, وغيرها... وتبلغ مساحة تلك الحوائج في محافظة الرقة نحو ألفي هكتار, وتضم أنواع الأشجار التالية: الغرب (الحور الفراتي), الطرفاء, الصفصاف, الزر, كما تضم أنواع الزل (القصب), البردي, السوس, الهليون.

وتنمو الأشجار في هذه الحوائج حسب قربها من المياه وبعدها عنه, وبحسب جريان الماء أو ركوده, وبحسب طبيعة التربة, فالصفصاف مثلاً, ينمو على ضفاف الحوائج, مشرفاً على مياه النهر, والبردي في المياه الراكدة, والزل في المياه الجارية.

وتعد الحوائج مستعمرات لأنواع من الطيور المستوطنة والمهاجرة, فحيث تجولت فيها رأيت على رؤوس الأغصان أعشاش الطيور الملتفّة كالمغازل, أو كعرانيس الذرة.. ولا تكاد تخلو شجرة من تلك الأعشاش..

حوائج اصطناعية

وبعد بناء سد الفرات, وتشكّل بحيرة الأسد, ظهرت بعض الحوائج الجديدة الاصطناعية من هضبة ما, أو سلسلة هضاب, وهي عارية من الأشجار, وأهمها ما يسمى الآن بجزيرة عايد, التي تحولت بعد تشجيرها إلى محمية الثورة البيئية (سنعود إليها في مقال آخر), وهي تمتد على مساحة 590 هكتاراً, أغلبها تم تشجيره, كما زوّدت باستراحة, وعوّامة, وطرق, وبالعديد من الحيوانات كالغزلان والطيور.

محميات طبيعية

إن جزر الفرات تشكل ثروة بيئية, سواء من ناحية الأشجار والنباتات الموجودة, أو من ناحية الطيور والحيوانات.. وهي ثروة ما زالت معرضة للخطر, ما لم تتحول إلى محميات بيئية, وهناك سعي في هذا الاتجاه, لكن هذا السعي تأخر كثيراً, وما زالت هذه الحوائج عرضة للاعتداء الدائم بأشكال مختلفة: مقالع, حرق, قلع... فكيف نسعى ونبذل جهوداً جبارة في تشجير ضفاف بحيرة الأسد, ثم نفرط بما منحتنا إياه الطبيعة؟!

إن تلك الجزر تصلح للاستثمار السياحي, ويمكن الاستفادة منها في تصوير المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية, فهي من الداخل غابات حقيقية واسعة..!

سلطان النهر

في زيارتنا للحوائج, حاول المصور أن يرصد دورة حياة طائر النورس, في إحدى الحوائج الصغيرة التي تعتبر مستعمر خالصة لطيور النورس... حيث كانت تطير بكثافة, ثم تعود إلى أعشاشها, وفراخها وبيضها, فالبيض كان في مرحلة التفقيس, فكانت الطيور الصغيرة العمياء التي ما زالت تغوص في محتويات البيضة, تعمل جاهدة في نقر قشرة البيضة, للخروج من سجنها إلى رحابة الحياة حيث الماء والخضرة وحيث أشباهها من الطيور.. وحين تخرج, تسكن أياماً, ثم تدرج على الحصى والرمال والنبات... وإذ تكتمل دورة الحياة وتصبح قادرة على الطيران.. تحلق فوق النهر, كأنما هي سلطانه!

والأهالي يطلقون لقب سلطان النهر ليس على طائر النورس, بل على طائر (الشقراق) الذي حين يحلق فوق النهر, صافاً جناحيه بجلال يخيّل إليه أن النهر مملكته.. إلا أن النهر بحوائجه وأسماكه ومائه وحياته هي مملكة الطيور كلها..!