لم يختلف المؤرخون في تحديد سنة وفاة الصحابي "وابصة بن معبد الأسدي" فقط، بل اختلفوا أيضاً في تحديد مكان قبره، وكان اختلافهم على آراء عدة، منها ذكر "ابن عساكر" في كتابه تاريخ مدينة "دمشق"، في الجزء الثاني ص/197 ـ 200/، أنَّ هذا الصحابي قد دفن في مقبرة "باب الصغير" بمدينة "دمشق"، بينما يذهب عدد آخر من المؤرخين أنَّ وفاته كانت في "الرقة"، "تهذيب الأسماء واللغات لـ"النووي"، ج/2/، ص/142/، "الإكمال في أسماء الرجال" لمؤلفه "ولي الدين الخطيب"، ج/3/، ص/775/، وزاد عليهم الإمام "الذهبي" قوله أنَّ قبره بـ"الرقة" عند المسجد الجامع، وذلك في كتابه "تاريخ الإسلام"، ج/2/، ص/325/.

فأين المكان الحقيقي لقبر الصحابي "وابصة"، هل هو في "الرقة"، أم في "الرافقة"، أم في "دمشق" كما ذكر "ابن عساكر"؟! وما الفرق بين "الرقة"، و"الرافقة"؟ وكم مسجداً جامعاً يوجد فيهما؟ وما هو سبب اعتقاد أهل "الرقة" الحديثة أنَّ القبر الذي تعلوه قبة خضراء في باحة مسجدها الجامع، الذي ما زالت أطلاله ماثلة حتى يومنا هذا هو قبر "وابصة"؟ وإن لم يكن هذا القبر هو للصحابي "وابصة بن معبد الأسدي"، فقبر من يكون؟ وهل المسجد الجامع في "الرقة"، الذي ذكر أغلب المؤرخين وجود قبر "وابصة" به، هو ذاته مسجدها الذي لم تندرس آثاره حتى الآن؟

بعد التوفيق بين كل الروايات المختلفة نستطيع القول أنَّ قبر "وابصة" موجود في المسجد الجامع بـ"الرقة"، بالقرب من مئذنة "المنيطير"، التي تهدمت في بدايات القرن الماضي، وكانت هي ذاتها مئذنة المسجد الجامع في "الرقة"، وأنَّ القبر الآن لم يعد له وجود، وقد اندثر باندثار آثار المسجد الجامع في "الرقة"، الذي بنيت في مكانه مدرسة حديثة

أليس من المحتمل أن يكون الصحابي "وابصة" قد دفن في مقبرة من مقابر المسلمين، ولم يدفن في باحة مسجد، لأن فكرة الدفن في المساجد لم تكن مطروقة في عهد صحابة رسول الله؟

الرقة كانت خارج السور والرافقة بداخله

موقع eRaqqa للبحث في هذا الموضوع، التقى بتاريخ (12/3/2009)م، الباحث الأستاذ "حمصي فرحان الحمادة"، الذي سألناه بدايةً عن رواية "ابن عساكر"، في ذكر مكان قبر "وابصة" فقال: «إنَّ رواية "ابن عساكر" حول مكان قبر الصحابي "وابصة"، بأنه في "دمشق" يعتريها الضعف، بل أقول الترك من وجهين، أولهما انفراده بذكر هذه الرواية مخالفاً كل الرواة والمؤرخين الذين ذكروا غير ذلك، أما الوجه الثاني لضعف تلك الرواية فهو إعطائه روايته صيغة التضعيف عندما قال: (وأما "وابصة" فيحتمل أن يكون صحيحاً، فقد قدم "دمشق" وسمع بها من "سبرة بن فاتك"، وكان مقام "وابصة" بـ"الرقة"، وبها ولده وحديثه)، فقوله (احتمال أن يكون صحيحاً) هو دليل على عدم الوثوق من الرواية، كما هو معروف لدى المؤرخين».

وعن بقية الروايات التي تحدثت عن مكان القبر، يجد الباحث "الحمادة" أنَّ بناء النتيجة المقنعة حول هذا الأمر تكون بسرد تاريخي عن تاريخ مدينة "الرقة"، حيث يميز بينها وبين "الرافقة"، فيقول: «لقد ذكر المؤرخون وفاة "وابصة" بـ"الرقة"، وحدد بعضهم مكانها بدقة أكثر فقال في مسجدها الجامع قرب المنارة، ولكني أحب أن أخوض في باب سيكون هو المدخل الحقيقي لاتفاقنا حول مكان قبر "وابصة"، وهو سرد معلومات تاريخية عن تاريخ مدينة "الرقة"، التي فتحها العرب المسلمون على يد القائد "عياض بن غنم"، وذلك يوم الخميس المصادف للنصف من شعبان عام /18/هـ، حين قدم إليها في خمسة آلاف مقاتل، ونزل في باب "الرَّها"، الذي كان أحد أبوابها، وهذه المدينة كانت تقع في ضاحية من ضواحي مدينة "الرقة الحالية، وتسمى "المشلب"، أو "مستجد نكيب".

تحت هذه المدرسة يوجد القبر الحقيقي للصحابي وابصة.

و"الرقة" المذكورة في أمهات كتب التاريخ القديمة، هي التي استلم إمارتها وقضاءها وخطابة مسجدها الصحابي "وابصة بن معبد الأسدي"، حيث للمساجد في الإسلام بجانب كونها دوراً للعبادة، دور آخر يتمثل في كونها معاهد تخرج علماء في كل المجالات، ولم تكن "الرقة" نشازاً عن ذلك، إذ وجد فيها الكثير من المساجد.

أما "الرافقة" فقد بنيت بعد بناء "الرقة" بزمن كثير، وذلك على يد الخليفة العباسي "المنصور" عام /155/هـ، حيث بناها على طراز مدينة "بغداد"، وعلى بعد /300/ ذراع من مدينة "الرقة"، التي كانت مواليةً لـ"بني أمية"».

الباحث الأستاذ حمصي فرحان الحمادة.

ويتابع "الحمادة" استعراضه للسرد التاريخي لـ"الرقة" ومساجدها بالقول: «أول مسجد بني في "الرقة" هو المسجد الجامع، الذي بناه "سعيد بن عامر" والي الجزيرة بعد "عياض بن غنم"، عام /20/هـ، حيث بقيت أطلال هذا المسجد ماثلة حتى عهد الانتداب الفرنسي، حين هدمت منارته التي كانت تعرف باسم منارة "المنيطير"، ودرست الأيام آثار المسجد وبنيت فوقه مدرسة، كما كان هناك فيها مساجد أخرى كثيرة أذكر منها تعداداً فقط مسجد "ابن الصباح"، "الجنائز"، الرماح"، "قريش".

أما "الرافقة" والتي هي المدينة المحاطة بالسور الترابي الحالي، فقد كان فيها الكثير من المساجد أيضاً، منها المسجد الجامع الذي ما زالت أطلاله قائمة حتى الآن، ونستدل من كل ذلك أنَّ كلاً من "الرقة"، و"الرافقة"، كانتا عامرتين بالمساجد، وأنَّ في كل منهما كان يوجد مسجد جامع، وهذا ما يؤكده "الاصطخري"، و"ابن حوقل"، الذي قال: (إنَّ "الرقة" و"الرافقة" مدينتان متلاصقتان وفي كل منهما مسجد جامع)، وسرعان ما خربت "الرقة" القديمة وشيدت أبنية جديدة في الفضاء بين "الرقة"، و"الرافقة"، ثم غلب اسم "الرقة" على "الرافقة" بمرور الأيام».

ويؤكد الباحث "الحمادة"، أنَّ الصحابي "وابصة بن معبد الأسدي"، وجوده في "الرقة" القديمة فيقول: «قبل وفاة "وابصة" بعشرات السنين كان هناك مسجد جامع بـ"الرقة"، وقد بني عام /20/هـ، وقد اعتلى منبره "وابصة"، بينما لم تبن "الرافقة" إلا في عام /155/هـ، فالفارق الزمني بين بنائها ووفاة "وابصة" كبير جداً، وهذا الأمر يقودنا إلى مناقشة مجموعة من الاحتمالات، أولها أنه لم يدفن في باحة مسجد أبداً، بل في مدافن المسلمين، ويقوي هذا الرأي أنَّ "القشيري"، أقدم من كتب عن تاريخ "الرقة" لم يذكر مكان الدفن لأن الشيء العادي بدفن الإنسان في المقبرة لا حاجة لذكره، ولكننا نصطدم بنصوص تاريخية تحدد مكان الدفن، ونحن مضطرون للوقوف أمامها موقف الاحترام.

أما الاحتمال الثاني فهو دفنه في المسجد الجامع في "الرافقة"، وننفي هذا الاحتمال لكون وفاته كانت قبل بناء هذا المسجد بعشرات السنين، وأنَّ "الرافقة" بنيت بعد "الرقة" بمئات السنين، فكيف تدفن جثة في باحة مسجد بجانب مئذنة لم توجد بعد؟ أما الاحتمال الأكثر عقلانية لدينا أنه دفن في المسجد الجامع في "الرقة" القديمة ـ قرية "الحليسات" حالياً ـ وسبب كون هذا الاحتمال هو الأقوى لاتفاق الروايات جميعها أنه مات في "الرقة"، ووجود مسجد جامع فيها كان يخطب فيه "وابصة"، وتحديد الإمام "الذهبي" مكان الدفن في المسجد الجامع في "الرقة"».

ويتابع "الحمادة" حديثه لنا عن مكان قبر هذا الصحابي بالخروج بنتيجة مفادها: «بعد التوفيق بين كل الروايات المختلفة نستطيع القول أنَّ قبر "وابصة" موجود في المسجد الجامع بـ"الرقة"، بالقرب من مئذنة "المنيطير"، التي تهدمت في بدايات القرن الماضي، وكانت هي ذاتها مئذنة المسجد الجامع في "الرقة"، وأنَّ القبر الآن لم يعد له وجود، وقد اندثر باندثار آثار المسجد الجامع في "الرقة"، الذي بنيت في مكانه مدرسة حديثة».

وعن سبب اعتقاد أهل "الرقة" الحديثة ولفترة طويلة أنَّ قبر "وابصة" هو القبر الذي تعلوه القبة الخضراء في باحة المسجد الجامع لمدينة "الرافقة"، يقول "الحمادة": «في عام /1869/م، قررت الحكومة العثمانية أن تجعل "الرقة" آهلةً بالسكان، لتعود إليها الحركة والعمل، نظراً لمكانتها التاريخية، وبدأ السكان الجدد يتساءلون عن القبر الموجود في باحة المسجد القديم بـ"الرافقة"، فذكر لهم من كان على اطلاع على كتاب "أسد الغابة" أن القبر هو لـ"وابصة"، وتوارث الناس لبساطتهم هذا القول والاعتقاد جيلاً بعد جيل، حتى صارت مع مرور الأيام حقيقةً لا تقبل الجدال، أنَّ هذا هو قبر الصحابي "وابصة بن معبد الأسدي"».

ويتابع "الحمادة" حديثه بتعريفنا بصاحب هذا القبر الموجود في باحة المسجد الجامع في "الرافقة"، فيقول: «قام الأستاذ "طاهر النعساني" قائم مقام "الرقة" سابقاً بتحقيق كتاب تاريخ "الرقة" لـ"القشيري"، حيث يقول: (اطلعت على كراسة محفوظة لدى المرحوم "خالد بك العظم المؤيد الحموي"، تفيد أنَّ "سعد الدين باشا العظم" كان عين والياً على "الرقة" سنة /1175/م، وبينما هو يقوم بإدارتها، وقع الطاعون ففرَّ من البلد من فرّ إلى البلاد المجاورة والنائية، وكان قد تلقى أمراً سلطانياً بالرحلة إلى "بغداد" والياً عليها، وبينما هو يستعد للنقلة إذ به يصاب بالطاعون ويدفن في باحة المسجد)».

ويختتم باحثنا "الحمادة" حديثه عن هذا الموضوع بالقول: «إنَّ القبر الموجود في باحة المسجد القديم حالياً هو قبر "سعد الدين باشا العظم"، أما قبر "وابصة بن معبد الأسدي"، في "الرقة" جانب مسجد "الرقة" المندثر والذي بنيت فوق أطلاله مدرسة "زكي الأرسوزي"، الواقعة في حي "المشلب"، وهو بذلك مجهول الهوية، ومعروفة لدى أهل "الرقة" حكاية الشاهدة التي وجدها بعض من حفر قبراً لأحد الموتى، والتي كتب عليها: (هذا قبر "وابصة بن معبد الأسدي")، وسرعان ما عاد إلى دفنها مرة ثانية بالمكان ذاته الذي بنيت فوقه المدرسة التي ذكرناها».