لاشك أنّ كلمة "جزيرة"، تعني تلك الأرض التي تحيط هنا أطلقت على المنطقة الواقعة بين نهري "دجلة" و"الفرات"، وقد أطق هذا الاسم معظم المؤرخون العرب القدامى، وقبلهم مؤرخو اليونان والرومان، ومنهم المؤرخ "بلينوس"، ومن المؤرخين العرب، "المقدسي"، و"ياقوت الحموي"، الذين أسموها "جزيرة ياقور" في "أحسن التقاسيم لـ"المقدسي"، و"معجم البلدان" لـ"ياقوت الحموي"، وكذلك جزيرة "آتور" لـ"ابن عبد الحق البغدادي" في الجزء الأول، الصفحة رقم/331/ .

وعلى "جزيرة آتور" أطلق مؤرخو اليونان عليها اسم "بلاد ما بين النهرين"، أو "ميزو"، وتعني بين، و"بوتاميا"، وتعني النهرين، فسموها "ميزو بوتاميا"، "بلاد ما بين النهرين".

... كانت معدن الأبطال وعنصر الرجال، وينبوع الخيل والعدة، وينبوت الحيل والشدة

في الألف الثالث قبل الميلاد، حملت اسم "سو بارو"، وذلك في العهد "الحوري" حين كانت عاصمتهم "أوركيش"، المدينة الغائبة في ثنايا أحد التلول الأثرية القريبة من مدينة "القامشلي"، وقد حدد موقعها البرفسور "جورجيو بوتشلاتي" أثناء تنقيباته الأثرية في "تل موزان" بالقرب من بلدة "عامودا" في محافظة "الحسكة"، بدءاً من عام /1989/ ميلادي، مقال لـ"كلود شيفر"، "الحوليات الأثرية العربية السورية"، المجلد /3/، عام /1951/ ميلادي، ص/314/.

الرقة قديماً

ويرى الجغرافيون العرب القدماء، وكذلك مؤرخو اليونان والرومان، أنّ حدود أراضي الجزيرة، تبدأ غرب "الفرات" وضفافه الجنوبية، هي جزءاً من الجزيرة السورية العليا. كما أنهم يعتبرون الخط الممتد من مدينة "الأنبار" على "الفرات" في بلاد الرافدين، وحتى مدينة "كريت" الواقعة على "دجلة" بما فيهما المدينتان الآنفتي الذكر، وكذلك الأراضي الواقعة شرق شمال "دجلة"، هي الحدود الشرقية لأرض الجزيرة السورية العليا، وجعلوا حدودها الشمالية "أرمينيا", وبلاد "الروم"، أما من الجنوب، فتحدها ضفاف "الفرات" اليمنى، أي "بلاد الشام"، ومنها "مسكنة"، "ايمار" القديمة، أو كما أطلق عليها العرب المسلمون "بالس".

ومن هنا نستطيع القول، أنّ الجزيرة وباديتها تقعان ما بين بادية "الشام"، وبادية "السماوة" العراقية، ولسنا ندري هل ما قاله "ابن عبد الحق البغدادي" في كتابه "مراصد الإطلاع" في الجزء الثاني، ص /671/، من أنّ "الرصافة" أنها واقعة في بادية "الجزيرة"، بمعنى هل الأرض الواقعة على يمين نهر "الفرات"، هي جزء من أرض الجزيرة السورية؟.

من الآثار الآشورية

أما المؤرخ "الاصطخري"، فهو الأخر يرى في كتابه "المسالك والممالك"، ص /25 ـ 21/، ومعه "ابن حوقل"، فهما يريان أنّ: «... برية خساف فيما بين "الرقة" و"بالس" عند يسار الذاهب إلى الشام، و"صفين" من هذه البادية بقرب "الفرات" ما بين "الرقة" و"بالس"، وهو الموضع الذي كان به حرب الإمام "علي"، و"معاوية ابن أبي سفيان"، ومن تكون الأراضي الواقعة ما بين "بالس" و"الرقة" الواقعة على يسار النهر في الاتجاه المعاكس لمجرى مياهه تسمى بادية "خساف" وأنها من بادية "الرصافة"».

أما المنطقة العليا الواقعة فوق "دجلة"، وهي منطقة "الموصل" في العراق، فهم أي الجغرافيون العرب، يعدونها من أرض الجزيرة السورية العليا، وقاعدة "ربيعة"، وكثيراً ما ترد لفظة "الجزيرة" و"الموصل" لديهم.

أما "ابن شداد"، فيقول: «إنها سميت بجزيرة "آثور"». ولعله يقصد "أشور". كما ورد ذكر "الجزيرة"، عند أغلب الكتاب، والجغرافيين العرب القدامى من أمثال، "ابن خردذابة"، وقبله "ابن جعفر"، و"ابن الفقيه"، الذين عاشوا في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، ومن القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، ذكرها كل من "المقدسي"، و"ابن حوقل"، و"الاصطخري" وغيرهم.

"ابن حوقل" في كتابه "صورة الأرض" ص /190/ وصف أرض "الجزيرة" بقوله: «... والجزيرة إقليم جليل بنفسه، شريف بسكانه وأهله رفه بخصبه، كثير الجبايات السلطانة، إذا كانت الأحوال والأموال والدخل على سلطانه داخل من وجوهه، وخارج من فطانه». وقال أيضاً عن الجزيرة: «... كانت معدن الأبطال وعنصر الرجال، وينبوع الخيل والعدة، وينبوت الحيل والشدة». المصدر السابق.

لقد قسم الجغرافيون العرب إقليم الجزيرة إلى ثلاثة كور، والكور تعني المقاطعات وهي: ديار "ربيعة"، وديار "مضر"، وديار "بكر"، نسبة إلى ثلاث قبائل عربية كبيرة ومشهورة في التاريخ، وتعني أيضاً نسبة إلى ثلاث مجموعات من القبائل العربية، عرفت بهذه الأسماء، وهي كانت قد هاجرت من جنوب الجزيرة العربية باتجاه بلاد الشام ،على حد قول المؤرخين، قبل ظهور الإسلام، فبلغت بحدودها أرض الجزيرة في زمن الدولة الساسانية، التي ظهرت في بداية الربع الأول من القرن الثالث الميلادي /226/م، ودام حكمها وسيطرتها مدة تجاوزت الأربعة قرون، أي حتى مشارف النصف الثاني من القرن السابع الميلادي /628/ميلادي.

لقد استمرت حركة القبائل العربية في تقدمها وتغلغلها نحو الشمال، حتى بعد حركة التحرر العربي، ويمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى عدة مراجع قديمة أهمها، "ابن حوقل" بحث الجزيرة، ص/189/، و "المقدسي" ص/136/.

أما ديار"ربيعة"، فقصبتها "الموصل"، ومن المدن التابعة لها "نصيبين"، و"ماردين"، و"رأس العين" "عين الورد"، و"كفر توتا"، و"تكريت"، و"دارا"، و"سنجار"، و"طور عابدين". ثم "ديار مضر"، وقاعدتها الرئيسة "الرقـة"، ومن مدنها "الرقة المحترقة"، و"الرقة السوداء"، و"الرافقة"، و"الخانوقة"، "حلبية وزلبية"، و"الحريش"، ولعلها "الحويش" بجانب "تل المريبط" من الشرق، و"باجروان" على "البليخ"، و"حصن مسلمة بن عبد الملك"، "مدينة الفار" بالقرب من "حمام التركمان"، و"ترعوز" أو "طرعوزة"، و"حران"، و"الرها"، و"تل موزن"، و"سروج"، ويتبعها في الجهة الشامية على يمين "الفرات" مدن أخرى مثل، "الرحبة"، و"قرقيسيا"، و"الدالية"، و"هيت"، و"الأنبار". "ابن حوقل"، ص/204/.

ومن مدن ديار "مضر" أيضاً تلك الواقعة على نهر "الخابور" وقصبتها، "عربان" أو"عربايا"، ومن مدن هذه الأخيرة "الحصين"، و"الشميسينية" أو "الشمسانية"، و"ما كسين"، و"سكير العباس"، و"الخيشية"، و"السكينية"، و"التنانير" على الخابور "تل تنينير".

أما "ديار بكر"، فقصبتها مدينة "آمد"، ومن مدن هذه الأخيرة، "جزيرة بن عمر"، و"ميا فارقين"، و"بدليس" و"خلاط"، و"أرون"، و"باقردي"، و"بازيدي". وقد أجاد "المقدسي" في وصف غالبية هذه المدن، متحدثاً عن ميزات كل إقليم من أقاليم الجزيرة على حدة، ذاكراً مياهه، ومكاييله ومحاصيله إذ يقول: «... ومن خصائص هذا الإقليم الخيل، والصابون، والسلاسل، والسيور، والقطن، والموازين، وفي "آمد" ثياب الصوف، والكتان، وبه نخيل مثل "سنجار"، ومدن الفرات».

وكذلك "ابن حوقل" يصف أرض الجزيرة قائلاً: «... وبالجزيرة براري ومفاوز وسباخ بعيدة الأقطار، تنتجع... الملح والأشنان، والقلي، وكان يسكنها قبائل "ربيعة" و"مضر"، وهم أهل خيل وغنم، وإبل قليلة، مما يعني أنهم كانوا حضراً، وأكثرهم متصلون بالقرى وبأهلها، فهي بادية حاضرة، فدخل عليهم في هذا الوقت، "القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي"، من بطون "قيس عيلان" الكثير من بني "قشير"، و"عقيل"، ومن بني "نمير"، و"بني كلاب"، فأزاحوهم عن بعض ديارهم، بل جلها، وملكوا غير بلد وإقليم منه، كـ"حران"، و"جسر منبج"، و"الخانوقة"، و"عربان"، "عربايا"، و"قرقيسيا"، و"الرحبة" في أيديهم يتحكمون في مرافقها». "ابن حوقل"، "صورة الأرض"، ص/205/.

من كلام "بن حوقل" عن أرض الجزيرة، نستطيع القول: أنها في العصر العباسي كانت، ذات أهمية نظراً لغانها الوفير بالاقتصاد المتطور، وتطور عمرانها، وبهذا الخصوص لا بد من الإشارة إلى مخططي كل من: "ابن حوقل"، و"الاصطخري لأرض الجزيرة آنذاك، حيث نجد أنهما بينا على هذه الخرائط أغلب المدن، التي ورد ذكرها سابقاً، فعلى سبيل المثال نجد أنّ "ابن حوقل"، قد رسم نهر "الفرات" مبيناً على ضفته الغربية، بدءاً من الشمال إلى الجنوب مدينة "جرابلس"، "كركميش القديمة"، وإلى الجنوب منها وضع مدينة "بالس"، "ايمار القديمة"، التي غمرتها مياه بحيرة "الأسد".

أما على الضفة الشرقية، فقد وضع جسر "منبج"، و"الرقة", و"الرافقة"، ومصب "الخابور"، و"الخانوقة"، "حلبية وزلبية"، ووضع "قرقيسيا" في الجانب الجزري، وفي الجهة اليمنى لنهر "الفرات"، الجانب الشامي، وضع "الرحبة"، و"الدالية"، كما أنه رسم طريقان بين كل من جسر "منبج"، و"رأس العين" مروراً بـ"حران"، وتل "بني سيار" الواقع بالقرب من تل "الخويرة" بالقرب من الحدود السورية ـ التركية شمال مدينة "الرقة".

أما "الاصطخري"، فقد ظهر في مصوّره طريقاً يربط "الرقة" بـ"المدينة المنوّرة"، ومن الملاحظ أنّ "الاصطخري" في مخططه هذا، قد وضع "الرافقة" شرقي "الرقة" القديمة، والعكس هو الصحيح. ثم نجد "ابن حوقل"، يعود ليرسم مجرى نهر "الخابور"، مبيناً على ضفته الغربية من الشمال إلى الجنوب مدناً مثل: "رأس العين"، و"عربان"، و"سكر العباس"، و"طلبان" أو "طليبان"، و"الجحيشية"، و"تنينير"، "تل تنينير" الأثري، و"العبيدية"، وعلى الضفة الشرقية من نهر "الخابور"، بين مجموعة من المدن مثل: "ماكسين"، ورسم بحيرة ليست بالصغيرة اسماها بحيرة "المنخرق"، وقد وصفها بقوله: «... و"المنخرق" بحيرة بين "ماكسين" و"الفرات"، استدارتها مساحة جريب أو أزيد بقليل، وفيها ماء أزرق عذب كالزجاج الملوّن لا يعرف قعرها، ولا يعرف كمية مائها». "ابن حوقل"، ص/190/.

ويرى الجغرافيون العرب، أنه لأرض الجزيرة امتداد داخل ثغور "الروم" من جهة "عمورية" مثل: "زبطرة"، و"ملطية"، و"عين زربة"، و"آذن"، و"مرعش"، و"طرسوس"، و"الهارونية"، و"شمشاط"، أو"سمسياط"، و"الكنيسة"، و"حصن منصور"، ومدن أخرى تمتد على مساحة الحدود التركية - السورية، داخل الأراضي التركية الحالية، إذ كان أهل الجزيرة من العرب يرابطون بها، ومنها يغزون الروم داخل أراضيهم. "الأعلاق النفيسة" لـ"بن رستة"، ص/107/.

كانت وما زالت جبال "أرمينيا"، و"الأناضول" تشكل خزان مياه كبير، إذ أنّ كمية الأمطار التي تهطل على هذه الجبال تقدر ما بين /800/ و/600/مم سنوياً، وتعتبر الثلوج التي تتساقط فوقهما في فصلي الخريف والشتاء، المعين الذي لا ينضب على مدار العام، وحين تذوب هذه الثلوج في فصل الربيع كانت تمد الينابيع والأنهر بقدرة كبيرة من الماء المتدفق طيلة العام، وخاصة الفروع والروافد، التي كانت تمد "الفرات" بالمياه العذبة من جهته اليسرى مثل: "البليخ"، و"الخابور"، و"جغجغ"، و"الجلاّب"، وأكبر هذه الروافد هما "البليخ"، و"الخابور"، فـ"البليخ" مثلاً كان وما زال مع نسبة أقل من الماضي، كان يمتلئ مجراه بالماء من "عين الذهبانية"، "عين العروس" الحالية، ويصب في "الفرات" شرقي "الرقة"، وقبل التحامه هذا بـ"الفرات"، كان وما زال يمر بين القرى، والضيع، والمزارع الواسعة.

أما نهر "الخابور"، فكان يستمد مياهه من نبعي "رأس العين"، و"الهرماس، وهذا الأخير ينبع من منطقة "طور عابدين" عند الحدود السورية - التركية، ومن جبل "سنجار"، كانت تنفجر العيون، والينابيع، حيث تغذي مياهها نهر "الثرثار" في"العراق"، الذي تفيض مياهه في صحراء "العراق" الواسعة. "معجم البلدان"، لـ"ياقوت الحموي"، المجلد /4/، ص/ 200/.

تقع أرض الجزيرة السورية ضمن بقعة كبيرة وواسعة من الأرض، وكانت وما زالت تتمتع بأهمية اقتصادية، وتجارية لاسيما، وأنها تقع عند موضع تتقاطع فيه الطرق التجارية القديمة، بين العراق القديم، و"الأناضول" من جانب، وسورية من جانب آخر.

هذا، وقد نشأت في أرض الجزيرة منذ القدم عدة أسواق، ومدن قامت على ضفاف كل من: "دجلة"، و"الفرات"، وعلى فروعهما التي مر ذكرها فيما سبق من كلام، وخاصة في "طور عابدين"، وعلى مسافة الطرق التجارية الواصلة بين "الرقة"، و"الموصل". "المصدر السابق".

وعلى أرض الجزيرة قامت أقدم الحضارات الإنسانية، دلت عليها الآثار المكتشفة في المواقع الأثرية مثل: "تل المريبط"، و"تل أبو هريرة"، و"تل الخويرة"، و"تل صبي الأبيض"، و"توتول"، و"تل حلف"، و"ماري، و"الفخيرية"، و"براك"، و"موزان"، و"محمد الذياب"، و"شاغار بازار"، و"حمو كار"، وغيرهما من التلال والمواقع الأثرية.

وفي أرض الجزيرة، التقت حضارات "ما بين النهرين" بحضارات حوض البحر الأبيض المتوسط، في الأفكار، والمنتجات، والصناعات، حيث جنت منه الإنسانية أطيب الثمار. وفي أرض "الجزيرة"، صالت جيوش "سومر"، و"آكاد"، و"آشور"، و"الآراميون"، و"بابل"، وفوق سهولها، ورمالها تصارعت جيوش "آشور"، و"ميتاني"، و"حثي"، ثم أصبحت فيما بعد حقلاً للصراع الذي وقف فيه الشرق، والغرب وجهاً لوجه، أيام "الفرس"، والرومان".

وفي أجواء "الجزيرة"، تعالت ترانيم "السومريين"، و"البابليين"، وسادها "الآراميون"، وكان موقعها قبلة الأقوام القادمة من كل بقاع الدنيا.