«ذُكرت مدينة "الرصافة" في الرقم الآشورية، لكننا لم نعثر على دلائل مادية تدل على أن المدينة عاصرت الآشوريين، ومنذ أن بدأ المعهد الألماني بالتنقيب الأثري الممنهج فيها منذ عام /1952/م لم يُعثر على دلائل ولقى تدل على أي أثر آشوري.

و"الرصافة" إحدى الحصون الرومانية المتقدمة على حدود الدولة الشرقية مع الساسانيين، وهذه الحصون ضمن سلسلة من نظام الدولة الروماني الدفاعي، ويمتد على الحدود بمسافة متساوية تفصل الحصن عن الحصن الذي يليه بمسافة تتراوح ما بين /25 ـ 30/كم، وهي تبدأ بمدينة "تدمر" و"آراك" و"السخنة"، و"الطيبة"، و"الكوم" و"الرصافة"، و"سورا" على "الفرات"، ويعود تاريخها إلى القرن الأول الميلادي، والحصن الروماني عبارة عن برج دفاعي، يحيط به مستوطنات بشرية، وفي دراسة الباحثة الألمانية "ميشائيلا كونراد" عن الحصون الرومانية، أكدت أن مدينة "الرصافة" أحد الحصون الرومانية المتقدمة».

"البازليكا" طراز كنسي، مؤلف من صحن ينتهي في الشرق بمحراب على شكل حنية نصف دائرية، على جانبيه جناحين يفصلهما عن الصحن سلسلة من الأعمدة والأقواس، أما الكنيسة المركزية، فهي عبارة عن مسقط مركزي يوحي بالمركزية، مع وجود ثلاث حنيات نصف دائرية، تشكل مع حنية المحراب وحدة رباعية، لذلك يمكننا أن نطلق على هذا الطراز كنيسة "الحنيات الأربع"

ذكر ذلك الآثاري المهندس "إبراهيم سلمان"، مدير الجانب السوري في البعثة الألمانية للتنقيب الأثري في مدينة "الرصافة"، في معرض حديثه حول مدينة "الرصافة"، وأعمال التنقيب فيها.

المهندس إبراهيم سلمان

ويتابع "سلمان" حديثه حول تاريخ "الرصافة"، قائلاً: «في القرون الميلادية الأولى كانت المسيحية مضطهدة، والدولة الرومانية تلاحق معتنقيها، وفي عام /305/م أعلن الضابطان السوريان في الجيش الروماني اعتناقهما المسيحية، فأرسلا إلى حصن "الرصافة"، وعُذبا هناك حتى الموت، ودُفن "سرجيوس" خارج الحصن الروماني، داخل المدينة الحالية، وبعد اعتماد المسيحية ديناً للدولة، صدر مرسوم "ميلانو" في عام /313/م، الذي شرّف "سرجيوس" بأن اعتبره قديساً، وبني في موضع رفاته كنيسة مكان "البازليكا" آ، التي بنيت على أنقاض "البازليكا" ب، ودعيت "الرصافة في تلك الفترة بمدينة "سرجيوبوليس".

شهدت مدينة "الرصافة" في هذه الفترة ازدهاراً كبيراً، كونها أصبحت مركزاً دينياً هاماً للحجاج المسيحيين، وبنفس الوقت من أهم المراكز التجارية على طريق الحرير، ما أدى لازدهارها عمرانياً تجلّى ببناء سور المدينة الدفاعي، الذي يضم /50/ برجاً دفاعياً مجهزة بممرات دفاعية، إضافة إلى بناء خمس كنائس ضمن السور، أربعة منها من طراز "البازليكا"، والخامسة مركزية، وتطور ازدهار المدينة في الجانب المدني، تجلّى ببناء خزانات المياه والخان، والأبنية السكنية، ووصلت المدينة إلى أوج ازدهارها في عهد الإمبراطور "جوستنيان" في عام /527 ـ 562/م.

الألماني كريستوف كونراد

تتميز المدينة بطراز معماري، وزخرفة فنية فريدة، جزء منها مازال محافظاً على شكله تماماً، مثل البوابة الشمالية، وفي الكنيسة المركزية المركزية، وتعرضت المنطقة لسلسلة من الزلازل، ثبت منها بالدراسة الإحصائية زلزالان، الأول في القرن السادس الميلادي، والثاني في الفترة /740 ـ 749/م، أديا إلى انهيار جزء كبير من مباني المدينة، ومنها "البازليكا" ب موضع رفات القديس "سرجيوس"، التي نقلت إلى موضع "البازليكا" آ، التي دعُمت، ورممت بقطع وأجزاء وأعمدة من "البازليكا" ب، لذلك تدعى "البازليكا" آ بكنيسة القديس "سرجيوس"».

وحول التصنيف المعماري للـ"بازليكا"، والكنيسة المركزية، يقول "سلمان": «"البازليكا" طراز كنسي، مؤلف من صحن ينتهي في الشرق بمحراب على شكل حنية نصف دائرية، على جانبيه جناحين يفصلهما عن الصحن سلسلة من الأعمدة والأقواس، أما الكنيسة المركزية، فهي عبارة عن مسقط مركزي يوحي بالمركزية، مع وجود ثلاث حنيات نصف دائرية، تشكل مع حنية المحراب وحدة رباعية، لذلك يمكننا أن نطلق على هذا الطراز كنيسة "الحنيات الأربع"».

كنيسة القديس سرجيوس

ويتابع "سلمان" حديثه عن تاريخ "الرصافة"، والعهود التي شهدتها، قائلاً: «استمرت المدينة في عهد الدولة البيزنطية، وحافظت على مركزها الهام إلى حين انتشار الإسلام في المنطقة، وفي العهد الأموي نقل الخليفة العاشر "هشام بن عبد الملك" مركز إقامته إلى "الرصافة" في عام /724/م، وبنى فيها قصرين خارج أسوارها من جهة الجنوب والجنوب الشرقي، ومجموعة من الأبنية السكنية الأخرى، إضافة إلى الجامع الأموي المتاخم لكنيسة القديس "سرجيوس"، ويمتاز هذا الجامع بطراز معماري مشابه للجامع الأموي الكبير في "دمشق"، حيث يحتوي على قاعة للصلاة ثلاثية الأجنحة، مسقوفة بأسقف "جمالونية"، إضافة إلى صحن الجامع، وما يزال المحراب واضحاً حتى يومنا هذا، وقد قامت البروفيسورة "دورتي زاك" بوضع دراسة مفصلة عن الجامع، ونشرت بحثها في "معهد الآثار الألماني"، تضمنت دراستها مسقط الجامع، والمراحل الزمنية التي بني فيها.

في العهد العباسي، رفض العباسيون أن تكون أحد المراكز الأموية مركزاً لخلافتهم، لكن الدراسات بينت أنهم استخدموا المدينة لبضعة أعوام، ثم بقيت المدينة مأهولة حتى عام /1250/م عند دخول التتار إلى المنطقة وتدميرها».

وحول الأبحاث وأعمال البعثات الأثرية في "الرصافة"، يقول "سلمان": «بدأت البعثات الأثرية المنتظمة بالتوالي إلى مدينة "الرصافة" من قبل المعهد الآثاري الألماني في "دمشق" منذ عام /1952/م، وتضمنت أعمالها دراسات وأعمال تنقيب ضمن أسوار المدينة وخارجها، ومنذ عام /2006/ يدير البعثة من الجانب الألماني البروفيسورة "دورتي زاك"، ويتضمن مشروعها خمسة أقسام رئيسية، الأول وضع الخريطة الأثرية للموقع، والثاني أعمال المسح والتنقيب الأثري، والثالث سور المدينة، والرابع التحضير لأعمال الترميم والتدعيم للأبنية، والخامس تأهيل وإدارة الموقع سياحياً، وتقوم البعثة بعملها على مرحلتين، الأولى ربيعاً لمدة أربعة أسابيع، والثانية صيفاً لمدة ستة أسابيع».

وحول أقسام المشروع، يحدثنا المهندس "سلمان"، قائلاً: «أولاً الخريطة الأثرية، وتتضمن إصدار كتاب يوثق تاريخ "الرصافة" بالتعاون مع بقية أقسام المشروع، ثانياً المسح والتنقيب، ويعمل فيه حالياً الآثاري الألماني "كريستوف كونراد"، وتتضمن أعماله في التنقيب والبحث في القصور الأموية، ثالثاً سور المدينة، وتقوم الباحثة الآثارية "كاترينا هوف" بدراسة السور وتوثيقه، وتحديد المراحل الزمنية التي بني فيها، إضافة إلى تقنية الإنشاء بما يخدم العمارة العسكرية أو الدفاعية.

رابعاً، التحضير لأعمال التدعيم والترميم، ويتألف هذا القسم من محورين، الأول تقديم مخططات تدعيم "البازليكا" آ، وتنفيذه أيضاً حسب جدول الأولويات بتمويل من الجانب الألماني، والمحور الثاني، يقوم الباحثان "إبراهيم سلمان"، و"آكسل شومان" بدراسة المبنى آثارياً ومعمارياً، ويهدف البحث لتقديم منظور علمي لحالة المبنى الأصلية، وتوثيق أجزاء المبنى المهدمة، وتتحول أيضاً إلى قسمين، الأول أشرف أنا عليه، وأقوم بتقديم مخططات إعادة تأهيل المبنى معمارياً، وذلك بإعادة بعض القطع المتهدمة إلى مكانها الأصلي، ومثال ذلك الأعمدة في الكنيسة المركزية، وهذا الإجراء يندرج تحت رغبة الجانب السوري، وهو موضوع رسالتي للدكتوراه. القسم الثاني، ويقوم به الألماني "شومان" لفهم وظيفة المبنى من الجانب التاريخي، كمركز للأسقفية، وعلاقته مع الأسقفيات الأخرى.

وأخيراً القسم الخامس المتعلق بالتأهيل وإدارة الموقع سياحياً، وقد قدّم الجانب الألماني دراسة عامة لمسار الزوار، ووضع لوحات الدلالة أمام كل مبنى باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، ويبدأ مسار الزوار من البوابة الشمالية، وينتهي بالبرج الجنوبي الشرقي، الذي سوف يتم تأهيله ليكون منصة لإطلالة على القصور الأموية».

الآثاري الألماني "كريستوف كونراد"، بادرنا بالقول: «أنا سعيد جداً لأنني أعمل في سورية، وتحديداً بهذا الموقع الهام، وأنا أعتبر سورية أحد أهم المراكز الرئيسة لنشوء الحضارات في العالم، والنقطة التي أبحث فيها تنحصر في العهد الأموي، الذي تميز بالإخاء والتسامح الديني، وهذا ما يؤكده وجود ممر يربط "البازليكا" آ بالجامع الأموي، وينتهي بموضع رفات القديس "سرجيوس"، الذي يحظى باحترام وتقديس العرب المسلمين، كما إنني أتعامل مع السوريين بكل احترام، ونتمنى أن يتوسع عمل البعثات الأثرية ليشمل كل أنحاء سورية».

وحول عمله في قسم المسح والتنقيب، يقول "كونراد": «جعل الخليفة "هشام بن عبد الملك" مدينة "الرصافة" عاصمة لملكه، وكانت المدينة مهمة له كمركز ديني، وموضع حج وتقديس لدى المسيحيين، وأراد أن يضفي على خلافته السمة العمومية، توزعت مراكز إقامته على مساحة قدرها /3/كم2، وبدأت أعمال التنقيب في منطقة القصور منذ عام /1952/م، وأوضحت الباحثة "كاترينا أوتو دورن" وجود قصرين لـ"هشام"، يمتازان بطراز معماري أموي، يحتوي الواحد منهما على سور والفناء الداخلي، الذي يتوزع إلى أبنية ثانوية ويتميزان بزخرفة معمارية جصية، مع التأكيد على أن الطين هو المادة الرئيسية للبناء.

تعمل البعثة الحالية على اكتشاف ما تبقى من القصر الجنوبي البعيد /1/كم عن سور المدينة، كما يتم البحث لاكتشاف طريقة التزود بالمياه، ومصدرها وطريقة توزيعها ضمن المدينة، إضافة إلى ري الحدائق، التي تتميز إحداها بدقة التنفيذ، والمتوضعة إلى جوار القصر الجنوبي، حيث احتوت على شرفة مسقوفة للتمتع بالإطلالة واستنشاق الهواء العليل».

وحول آخر المكتشفات في القصور الأموية، يقول "كونراد": «آخر الأبحاث التي توصلنا إليها في القصر القريب من المدينة نحو /300/م، وهو القصر الرئيسي، إضافة إلى وجود قصور ثانوية أخرى، لكن لم نستطع تحديد وظيفتها إلى الآن، ونقوم حالياً بدراستها، وقد تم العثور على قطع زخرفية من ديكور المبنى، غاية في الروعة والإتقان.

يلاحظ أن العباسيين استخدموا القصور كمبانٍ سكنية، وفي تلك الفترة، أسس "عبد الرحمن الداخل"، "صقر قريش"، الخلافة الأموية في "الأندلس"، وهو حفيد "هشام بن عبد الملك"، وكان قد قضى شطراً طويلاً من حياته في "البادية" و"الرصافة"، وبنى في "الأندلس" قصراً، أطلق عليه اسم "قصر الرصافة"، وقد اكتشفه الآثاريون الأسبان منذ بضعة أعوام، وهناك تعاون فيما بيننا لمعرفة التقارب بين عمارة قصور "الرصافة" و"الأندلس"، وتأثير العمارة الأموية بالعمارة الأندلسية».