هي ذاكرة تأبى الزوال لأنها تعتز بالماضي وتنظر إليه كموروث ثمين حفظه الآباء والأجداد، وقد لا يغيب عن ابن "السويداء" أن دلال القهوة والمهباج والمحماس والعبي إلى جانب الربابة مقتنيات للمضافة العربية القديمة، وميزة رافقت الزمن الجميل بكل ما فيه من قيم مازالت مرجعاً للعادات والتقاليد التي يتعارف عليها المجتمع.

فالشرقيات على الرغم من ندرتها مازالت بضاعة لبعض المتاجر، دليلك إليها رائحة القهوة المرة التي تطغى على المكان، وفي الغالب تجدها محاصرة بواجهات حديثة ألبسة وأزياء وأوان، لكنها مازالت موجودة تطلب من قبل الأهالي تعيدنا لأيام قديمة.

موقع eSuweda أضاء على بعض المتاجر التي مازالت هذه القطع بضاعتها الأساسية، إلى جانب القهوة المرة رفيقتها وصديقتها الصدوق التي تنعش برائحتها ذكريات وحكايا مازالت حديث الأهالي في السهرات واللقاءات.

السيد نزار عبدو مسعود في متجره الصغير

السيد "نزار عبدو مسعود" صاحب المتجر سَعِد بالحوار الذي طلب منا نقله للقراء لأن فيه فحوى رسالة أراد أن ينقلها للمجتمع، عن عمله وغايته بوصفه المعني بصناعة القهوة المرة وخبير الشرقيات.

  • متجر صغير بالقرب من ساحة "الطرشان" يعرفه طلاب الشرقيات، ما الذي جعلك تتجه لهذه التجارة؟
  • مهابيج من خشب الجوز

    ** أنا من سكان قرية "الرحى" الواقعة إلى جنوب شرق مدينة "السويداء"، اختبرت الاغتراب في دول الخليج العربي، وعدت لأستقر في بلدي، وعندما فكرت بالعمل وجدت هذا المتجر مناسباً للشرقيات التي لا تحتاج لمكان واسع بقدر ما تحتاج للخبرة، وبالطبع لم اختر هذه البضاعة بالصدفة لأنني أعشقها وحرصت على اقتناء عدد كبير منها، وقد بدأت بعرض الدلال النحاسية بمختلف الأحجام والأنواع والتصاميم وبيع القهوة التي ترافق الشرقيات بشكل عام إلى جانب المهابيج وقطع جميلة من الرباب، ولا أنكر أنني من خلال هذا العمل أشعر بالراحة والسعادة، وقد شعرت بأهميته كعمل له أثر اجتماعي أستطيع من خلاله نقل رسالة لمجتمعي وأهلي بعد سنوات الغربة التي خَبرت من خلالها اهتمام الشعوب بمآثرها، ومعاني ذلك بالنسبة لنا نحن أهالي "السويداء" لكوننا لم نخرج بعد من عباءة التقاليد والعادات الأصيلة.

  • هل مصدر البضاعة محلي ومن الشاري؟
  • الربابة والمهباج

    ** للأسف لم تكن ورش النحاس قادرة على الاستمرار خلال العقود الماضية في هذه المحافظة وهي بالأصل قليلة العدد، وبهدف كسب لقمة العيش ومع انخفاض الطلب تحول أصحابها لمهن جديدة ولم يبق منها إلا ورشة واحدة، تعنى بترميم القطع النحاسية القديمة وليس التصنيع، لذا فإننا نتعامل مع ورش تختص بصناعة الشرقيات في "دمشق" وهي التي تزودنا بما نحتاج وهي ورش راقية تعمل بحرفية عالية، ولا شك أن هناك تغيرات كثيرة طرأت على المادة الأولية والتصاميم والحجم، وبفعل طلب الشرقيات للزينة ولاستكمال مستلزمات المضافة يعتمد الصناع على جمال القطعة، والحرص على دراسة تكلفة القطعة لتتناسب مع إمكانية الشرائح التي تطلبها.

    وبالنسبة للمهباج الذي كان يستخدم في السابق كبديل من مطحنة القهوة فقد كان يصنع من أخشاب أشجار "البطم" التي تكثر في حراج المحافظة، والآن أصبح يصنع من خشب "الجوز" و"الصنوبر" لندرة "البطم" ولأن احتياجات المهباج أصبحت جمالية أكثر منها لسحن حبوب القهوة المرة، وبالنسبة للربابة فالمصادر متنوعة وهي من أكثر القطع طلباً لأن الغناء الشعبي مازال مصدر البهجة والفرح ومازال الأهلي يتحلقون حول عازف الرباب لينشدوا أشعار الأجداد تلك التي تحكي قصص البطولة والمجد.

    أما العبي وهي رداء خاص بالرجال فيطلب في موسم الشتاء، وعلى الرغم من تبديل الفرو الطبيعي بالصناعي، إلا أنها تطلب بكثرة فهذا الموسم مثلاً بعت ما يتجاوز 40 قطعة، وبشكل عام فإن زبائني من كبار السن، وهم من أهالي القرى مع نسبة من سكان المدن، إلى جانب بعض الزبائن من المحافظات المجاورة "درعا" "ريف دمشق" "القنيطرة".

  • يظهر أنك تعد كميات كبيرة من هذا المشروب، لماذا؟
  • ** عندما افتتحت المحل منذ أربعة أعوام ولأنني أعد القهوة المرة كل صباح كنت أحضر كمية لضيافة الزبائن ما جعل الجيران يهتمون بالأمر، وأخذت أساعدهم في تحضيرها فهي ضيافة مرغوب بها ولا ترفض، ولهذا فأنا أعد وبشكل يومي ما يقارب 15 براداً (ترمساً) لجيراني أصحاب المحلات تلبية لطلبهم، وفي الغالب تجدهم يطلبون الزيادة خاصة في الأعياد والمناسبات، ولا أنكر أنني سعيدٌ بهذا العمل لأننا بذلك نحافظ على هذا المشروب الذي قد لا تخلو قصيدة من ذكره، والقهوة المرة وصف للسمراء الجميلة ودليل الكرم، وهي رفيقة الدلال والمهباج والأهم من ذلك ضيافة المضافات العامرة بالحياة وطيب الأيام الماضية.

  • هل هي تجارة مربحة تشجعك على الاستمرار؟
  • ** الربح بسيط والطلب جيد وليس قليلاً، لكنها تجارة فيها الكثير من المتعة وهي مصدر لعلاقات اجتماعية هامة لأن الزوار من الرجال كبار السن وقد لا تجد متعة أكثر من التواصل معهم والاستماع لأحاديثهم حيث تتعود اللقاء بهم وتشعر بأنهم جزء من العائلة، وفي أيام كثيرة قد يتحول هذا المكان الصغير لمضافة تسرد فيها حوادث الماضي وقصصه وهذا ما يشجعني على الاستمرار والاعتناء بالعمل للمحافظة على نمط من العمل النادر الذي لا نريد له الزوال.