كثيراً ما نُسْألْ من قبل جيل نهاية الألف الثاني الميلادي، وجيل بداية الألفية الثالثة الميلادية عن عملية الحصاد، بواسطة المنجل اليدوي، وكيف كان الفلاح يفعل في فصل حبات القمح أو الشعير عن السنبلة؟ ورداً على مثل هذه الأسئلة نقول، قبل ظهور الآلات الحديثة، وخاصة الحصّادة الآلية، كان الزارع، أو الفلاح يعتمد على قواه الخاصة، في أعمال الحراثة، والبذار، والحصاد، مستعيناً بما لديه من الحيوانات، مثل الحصان والفرس والحمار، والبقر أيضاً، وقد تكون من ملكه، أو يستأجرها بشكل يومي، أو لمدة متفق عليها بينه، وبين مالكها، وأجرة استعمالها، تدفع على شكل دفع نقدي يومي، أو على كامل المدة، وهناك نوع آخر من الأجرة قد تكون عينية، حيث يقوم الفلاح بدفع كمية من المادة المزروعة عند نهاية الموسم.

قبل بداية فصل الخريف يبدأ الفلاح بتهيئة لوازم زراعة القمح والشعير، وإصلاح معدات الزراعة مثل المحراث الخشبي، والسكة المعدنية، وغيرها من لوازم الحراثة، وكذلك مواد البذار من قمح وشعير، وأحياناً الذرة البيضاء، وقبل هطول الأمطار يبدأ الفلاح بحراثة الأرض مستعملاً المحراث الخشبي، الذي يجره الحصان، أو البغل، أو الثور، وبعد الانتهاء من الحراثة، يقوم بحمل بذور القمح أو الشعير، مستعيناً ببعض الرجال من أقربائه أو جيرانه "الفزعة"، التي تعني المساعدة، حيث يقوم هو نفسه بعد الانتهاء من بذر البذار "طش"، بمساعدة ممن قاموا بمساعدته، وتتم عملية البذر على النحو التالي:

الطريقة الأولى، قد يقوم الفلاح ومساعدوه بنثر مادة القمح بواسطة أيديهم على شكل "حفنة" (أي ملئ قبضة الكف)، وهم يحملونها بـ"فروجهم"، والفرج هنا يعني أن يملئ "شليل" ثوبه من الأمام، ثانياً إياه بواسطة يده اليسرى، وباليمنى يقوم بنثر البذار، مردداً بعض الأقوال، مثل (للطير وما قسم الله)، كل ذلك يتم قبل الحراثة، وبعد الانتهاء من نثر كامل الكمية من القمح أو الشعير المراد زراعتها.

الحراثة بالفدان

يقوم الفلاح مباشرة بحرث الأرض، بواسطة المحراث الخشبي، الذي يسمى محلياً بالفدان، والفدان عبارة عن آلة من الخشب مكوّن من عدة قطع تبدأ بالسكة الحديدية على شكل كفين متلاصقين، ومنفرجين عن بعضهما البعض ينتهيان برأس حاد، وحادين من الأعلى كالسيف. ويقوم الفلاح بمسك طرف الفدان الخلفي، أما الطرف الأمامي فيربط على رقبة الحيوان المستعمل في الحراثة، وللفدان مسمى آخر هو "العدة"، والعدة مكوّنة من: الذَكرْ، والسكة، والناطح، والوصلة، والنير، والكدانة، والمنساس. وتتغنى الصبايا بفدادين "الخطيب" أي الحبيب، حيث تقول "الجبورية":

كل الفدادين حلّتْ/ عيني على فدانو

حصاد يدوي

يا سكتو من فضة/ وريام يا ثيرانو

الطريقة الثانية، يقوم الفلاح بحراثة الحقل المراد حرثه كاملاً، ثم بعد ذلك يقوم بنثر البذار بنفس الطريقة السابقة، بعد ذلك يعيد الكرة ثانية بتمرير السكة على نفس الخطوط المستقيمة التي حرثها، وهو بذلك يكون قد طمر البذار تحت التراب من جهة، ومن جهة ثانية عمق الخطوط التي حرثها في المرة الأولى، وبالتالي يكون قد حصل على نوعية جيدة جداً في تنعيم وتبريد تربة الحقل. بعد ذلك يقوم بوضع فزاعات في الحقل، كي تطرد الطيور حتى لا تنقر "تأكل" حبات القمح المبذورة.

حمل العاروبات

في الماضي، وقبل ظهور مضخات المياه الآلية، وقبل إنشاء السدود، وإحداث طرق الري المتطورة، كانت الزراعة في الأرياف السورية، وما زال الكثير منها في أيامنا هذه، تعتمد على كمية الهطولات المطرية، لذلك تسمى بالزراعة البعلية، وتسمى محلياً بزراعة "العذي"، التي تعتمد على كمية الأمطار، وهبوب الهواء الغربي، وكلمة "بعل" تعني "الرب"، أو الزوج، وهي منسوبة إلى الإله "بعل"، الذي عرف في الأساطير، والديانات السورية القديمة، ومثله الإله "داجان" إله الطعام والزرع، وهو إله "ماري"، وتوتول"، و"إيبلا" في الألفين الثاني، والثالث قبل الميلاد.

وفي أيامنا هذه إذا طلب الطفل من جدته أكلاً، ولم يكن لديها منه، يجيئه الرد منها، ليس لدينا "دجن" يا بني، أي ليس لدينا طعام أو خبز، ومن هنا يأتي تمسك البشر بتقديس مادة الخبز، وفي فترة لاحقة من تطور الأسطورة، أصبح "بعل" إله السماء التي تهطل مطراً كي ينبت الزرع وتكثر الخيرات.

ينتهي دور الفلاح، مع انتهائه من نثر البذار، فيجيء بذلك دور السماء والطبيعة، فإن كانت الطبيعة كريمة يبدأ الحصاد في شهر حزيران من العام الذي يليه، والحصاد قديماً هو من شأن الرجال والنساء على حد سواء، وفي الذاكرة الشعبية حكايا وقصص جميلة عن أيام الحصاد، وخاصة قصص الحب بين الشباب والفتيات.

يبدأ الحصاد بتجمع الرجال والنساء، وهم يحملون المناجل اليدوية كفريق أول، وهناك فريق آخر مكوّن في الغالب من الشباب والشابات، مهمتهم جمع "عاروبات" السنابل، الواحدة منها "عاروبة"، وهي باقة السنابل، وهناك تسمية محلية أخرى هي "الشمل"، ونقلها وتجميعها على شكل أكداس مستطيلة الشكل، يجمّعها "الحواصيد" فيما بعد على شكل بيادر..

ويبدأ عمل الحصاد باكراً، حيث يجتمع "الحواصيد" مشكلين نسقاً أفقياً، وكل واحد منهم يحمل بيده اليمنى المنجل، حيث يقوم كل واحد منهم يمد يده اليسرى إلى الأمام، ويمسك بقبضتها مجموعة من السنابل، ثم يجذبها بحركة معاكسة بواسطة المنجل، ويكون بذلك قد فصل مجموعة طيبة من السنابل مع نصف سيقانها، ثم يقوم برميها خلفه ليأتي ممن خلفه، ويضعها في "الكدس"، وأثناء هذه العملية تكون ظهور العاملين محنية، وعملهم متواصل، ويقومون بالحداء، والنشيد، لشحذ همم الجميع، وعدم الشعور بالتعب والخمول، حتى ينتهي الشوط الأول الذي يسمى بـ"الحدرة".

والحصاد عمل صعب وقاسي، لما يسببه من آلام في الظهر واليدين والقدمين، عدا ما يسببه من آلام في العيون نتيجة دخول الأتربة، التي تثيرها حركات الأقدام واليدين، وحركة المناجل، علماً أنّ الحاصد يعمل في فصل الصيف تحت أتون الشمس الحارق.. والحصاد طقس جماعي، تنشأ خلاله علاقات إنسانية واجتماعية وعاطفية، وهذا الأمر يفرض مناسبة طيبة لممارسة نوع من الغناء والحداء، التي شكلت مع الزمن نوع من الفلكلور والمأثور الشعبي، ما زالت عالقة في الذاكرة الشعبية. ونتيجة للتعب الذي يحل بالحاصدة، نجد الحاصد يصف معاناتها بغنوة حلوة يقول في بدايتها:

حاصود وارملها سبل/ وبرطم الحلوة ذبل

ومثل هذه الأغاني والأناشيد والحداء جديرة بالاهتمام، لأنها تتسم بالطابع العاطفي والوجداني والإنساني، وبعض أغاني الحصاد تتجلى فيها مشاعر الحزن والأسى، كما تظهر فيها تغزل الرجل بالمرأة، وشوقه العارم لها، وتغزله بحسنها وجمالها، وأشهر أغاني الحصاد هي: "الحداء"، "الموليا"، "المامر"، هلا بالواردة..الخ.

وموضوعات هذه الأغاني تدخل في إطار الموضوعات الذاتية والإنسانية، ولعلّ غناء "الموليا"، الذي ظهر إبان فترة حكم الخليفة "هارون الرشيد"، من أكثر الفنون الغنائية في الجزيرة السورية انسيابية ووضوحاً، ونورد هنا بعض الأمثلة من هذا النوع كالمقطع التالي:

اللـه يابو الزلف/ عيــني يمولية

يا بيض لا ترحلن/ ظلـن ونس ليـه

راحن لـتل السمن/ ما رحت أنا معاهن

شـوبـاشلك ياقلب/ تصـبر بلياهـن

ريتني سفيفة كـمر/ ألعب على جلاهن

وأجـابـل النجمـة/ التشعل خلاوية