شيء ما، بين ابن الريف المبدع والقصيدة، ذلك أن الفضاء الخلفي للشعر أو قل باعثه متوافرٌ كيفما أطال النظر، أو قصّره، وفي كلِّ الأوقات من ليلٍ ونهار، ومن أشفاقٍ وأغساق، إلى فجرٍ، وصباحات، وأعصار ومسايا.. ربما هنا نتفهّمُ المبدع في هذه المناخات، أول ما يُبدع في الشعر، حتى وإن فارقه فيما بعد للانشغال بأنواعٍ إبداعية أخرى.. فكيف إذا كانت هذه الفضاءات هي فضاء (وادي العيون) في ريف محافظة حماة، حيث عيون الماء متوافرة على عدد أيام السنة، وثمةَ ينابيع لا تملُّ تنبجسُ من سفحٍ هنا، أو من منحنى هناك، أو من عند غابةٍ، أو بجوار مقام وليٍّ صالح.. ينابيع وعيون ماء وسواق تتكفل بالمدى الأخضر على مدى الأيام والسنين..

من هذه الفضاء الخلفي الباعث لكلِّ هذا البهاء، وعى لؤي ماجد سلمان الحياة، هكذا وجدها أمامه مُترعةً بالجمال والصفاء، وكان من البديهي أن يدع (الهندسة) وأرقامها وحساباتها التي درسها في الجامعة، ويركنُ شهادتها جانباً، ويتجه صوبَ جماليات أخرى أخلص لها طول الوقت، وهي القصيدة التي سجّلَ في ديوانها إلى اليوم ثلاث مجموعات شعرية، ف"الشعر يُقرّبُ القلوبَ والمسافات" كما يُردد دائماً، ومن ثم كان اشتغاله لأجل أن يتقي فاقة هذه الحياة في الصحافة الفنية، حيث مارس النقد الفني بأنواعه، لا سيما المتعلق منه بالدراما: التلفزيونية والسينمائية والمسرحية.. وبقي مخلصاً في المقابل للقصيدة كملاذٍ إبداعي وجمالي أخير يقيه شرّ القباحة والخراب..

أخبرني ما الشعرُ يا عبدَ الله؟ فقال: شيءٌ يختلجُ في صدري؛ فينطقُ به لساني

"المرأةُ الجميلة؛

تقبعُ ذاكرتها

في أصابع قدميها..

شعراء دمشق،

سرقوا

كل الياسمين منها..

سأفتشُ عن قصيدةٍ من فصيلة الزنبق."

الصحفي علي الراعي مع الشاعر سلمان

تتنوّع قصيدة لؤي سلمان بالحمولات الجمالية، وكأنها حقيبة سفرٍ لسائحٍ اختار أنْ يحملَ «كاميرته»، ويروحُ يُصوّر كل ما تشتهي العين وتدهشها.. ذلك ما سيفاتحه لؤي من أولى فواتح قصائده في مجموعته «يسألونك عن الشعر» الصادرة عن دار التكوين بدمشق سنة 2015، والتي هي «ارتكابه» الشعري الثاني بعد مجموعة «لفافة الوقت» الصادرة عن دار بدايات سنة 2012، تلك المجموعة التي اتخذت من نص الومضة فضاءً لها،‏ فيما اتبع في نصوص الإصدار الثاني تقنية المتوالية الشعرية، أي ذلك النص الذي يتناسل من سابقه من ذات الرحم والعنوان، إضافةً لتخويضه في شعر (الهايكو)، بعشرات النصوص اللافتة..

" تزوج مرتين؛

حكمة الأجداد:

لا تضع كلَّ البيض في سلةٍ واحدة."

الأديب والكاتب باسم سليمان

هنا تبدو قصيدة هذا الشاعر الذي «يقترف الشعر» بدون جلبة، وبعيداً عن الضوضاء تماماً كناسكٍ متعبدٍ يتأمل الجمال بوحدة السفوح وقمم الجبال، تبدو القصيدة كائناً مسافراً في ترحالٍ بكلِّ ما استطاعت من دروبٍ وأزقة.. قصيدة تأخذ من بيادر الضيعة كمشة ترابٍ بداية انطلاق لرحلة جوّابة لن تنتهي في زواريب دمشق وحاراتها، كما لا تنسى أن تغرّد بعيداً باتجاه ماضٍ غابر حيناً، وأغبر في كثيرٍ من الأحيان، لتستخلص العبرة مرةً والجمال المكتنز والمُخزن على رفوف الذاكرة مراتٍ تالية.‏

«والمرايا بكاملِ أناقتها؛‏

بعض أعمال الشاعر سلمان

تلبسُ أزياءكِ‏

من غير نبضٍ واحدٍ‏

يتفرّسُ بي معطفُكِ الأخضر‏

هل كنتِ هنا قبل قليل؟!»‏

هكذا تأتي القصيدةُ عند سلمان ملونةً بالرموز التي توسّع من ضيق العبارة، كما تزيد من مساحة الرؤيا والرؤية، عدّته الشعرية في تركيب عمارة هذه القصيدة؛ تلك اللعبة الجمالية التي يقوم من خلالها بصناعة «تراكيب» تخصّ نصّ قصيدته وحسب، تراكيب غالباً ما يلجأ لاستعارتها من نصٍّ قديم - على قاعدة التنصيص - ويُرفقها بجملةٍ مُعاصرة، ليبني صياغته الشعرية التي تنحو باتجاه الفرح طوراً، والتهكم حيناً آخر، وفي مراتٍ كثيرة تنضحُ بكامل المرارة والخذلان، مع أنّ طابع الجمال الشعري العام لدى هذا الشاعر ملوّن بالبسمة على مدى البياض.‏

عبر كتابه الشعري (يسألونك عن الشعر) ودون رادعٍ من اللغة يفتح لؤي مدىً شاسعاً من مخيلته الشعرية على مناخٍ لا لبس فيه، رغم وحشة من الكلمات والصور والإيحاءات التي بذل الشاعر فيها جلّ تجربته اللغوية واللفظية، هنا حيث المخيلة، تُشكلُّ بوصلةَ هذا الشاعر لتدله إلى القصيدة الحقيقية، وإلى عيون الشعر الصاغية والصاخبة معاً في أبهى قوامها وبيانها وترفها.

إذاً تكمن الفعالية الشعرية في نص لؤي سلمان – كما يقول - في لعبه على «التراكيب» التي يأتي بها كحطاّب من غابات المرويات القديمة والتقليدية؛ ليؤلفها ويولفها من جديد بنصٍّ يفور جمالاً، هنا ثمة حقلٌ معرفي للمفردة الموحية، وثمة فسحة لتحويل الصور إلى أصواتٍ داخلية يتشابك من خلالها اللون والحركة معاً.‏

«عامانِ وأنا أدعوها إلى قهوتي‏،

ولا تُلبي رغبة الحسرة‏،

وعن طريق الصدفة، فقط‏

شاهدْتُها تخونُ أندلسي‏

أجل؛‏

ولاّدةُ خانتْ وودّعتْ صبرها‏

وابنُ زيدون لم يحضر أباريقهُ‏..

فهذه المرة‏

آثر أن يترك في جرة ذكرياته‏

ريقه.!»‏

يُنجز لؤي سلمان قصيدته على وقع التعريف بماهية الشعر والقصيدة، من خلال أسلافه من شعراء ومبدعين حاولوا تفسيره، تعريفات سعى الشاعر لجمعها، عله بذلك يُجيب سائليه، أو السائلين عن كنه الشعر، أو لوضع تعريفٍ ما للشعر ومعرفة غايته، الشعر هذا الكائن الخافق دائماً بجناحيه داخل القفص الصدري للشاعر، تلك «التعريفات» التي يضعها كفواصل بين مجموعات قصائده لتأخذ مكان عتبات الفصول والأبواب، وكأن لؤي يُحاول من خلال هذه التقنية الإجابة عن سؤال العتبة الأولى وأقصد عنوان المجموعة الذي جاء سائلاً ومتسائلاً: «ويسألونك عن الشعر» الذي يُذكرنا بالكثير من «ويسألونك»، ولا سيما «يسألونك عن الروح»، وكأنه أيضاً يسأل قارئه: هل أنا أكتب حسب محاولاتهم تعريف الشعر؟‏!

«أخبرني ما الشعرُ يا عبدَ الله؟ فقال: شيءٌ يختلجُ في صدري؛ فينطقُ به لساني» -عبد الله بن رواحة- نص لؤي مفعم بالمنحى الإشاري والدلالي للمفردات في تراكيبها الجديدة، والابتعاد ما شاء له من مسافات عن الخوض بالعموميات، مُجيداً الغوص والغرق في الذكريات البعيدة في تفصيله عن أنساق مشاعره وترتيب والتقاط ما فاته من صور قديمة من رؤى وأحلام، ومحاولاً النفوذ في العمق الباطني للأنا -الشاعرة ليبوح بتلك الأسرار المفترضة التي ما إن يرتكبها حتى يخرجها من قاع بئرها، أو من قاع الصدور وخلف الأبواب.‏

«وحيدٌ أنا في الجُبِّ يا يعقوب‏،

وسيارة رئيس القوافل‏

دهستني، ولم تلتقطني.‏

أنا المولودُ في حمص‏

تماماً في "حي عكرمة"‏

لا أريدُ أن أكون عصفوراً ولا طيراً من طيور الجنة‏

أريدُ أمي وأخي‏

وعروس سمنةٍ وسكر»‏

أخيراً؛ هل أجاب لؤي سلمان عن معنى الشعر، وعرف كنه؟! كل التراكيب التي اصطادها تؤكد أنّ فضاء بياضه كان عامراً بالكثير من غنائم القصائد.‏

وفي الختام، نقف عند شهادة الكاتب المتنوّع الشواغل الإبداعية الأديب باسم سليمان، الذي يقرأ في شعر لؤي سلمان إنّ الحرب: تدخل إلى نصوص لؤي سلمان من الباب، فيما تدخل الحبيبة من النافذة، وكأنَّ الحرب هي الصوت الأصيل، والحبيبة هي صدى لصوتٍ مات منذ زمن.. لكن هذا الصدى رويداً، رويداً يصبحُ صوتاً يكسرُ جلفَ الرصاص ويحوّله لرصاصٍ لدرء الحسد أو قلم رصاص بدلاً من فوهة البندقية عبر مسرح مدينة دمشق الذي لم يوقف الركح فيها عن زراعة الياسمين في أصصٍ كانت في الأصل أغلفة نحاسية لقذائف وقنابل".. ويُضيف: ديوان الشاعر سلمان غنيٌّ بالتجربة وطامحٌ إلى أنّ الشعر لا توجد أرض عصيّة عليه سواء أكان نظماً أم نثراً، يحققّ فيه تأصيل تجربته الشعرية المنفتحة على اليومي المحايث للغة، والذي يرفدها بماء الخلق والزّمني الذي يسمح لها بالتشكّل ينابيع وأنهاراً وبحيرات، واستشهد بعتبة أولية لدعبل الخزاعي ذكرها لؤي:

"يموتُ رديء الشعرِ من قبل أهله

وجيدهُ يبقى وإن ماتَ قائلُهُ".