الغالبية العظمة من الفنانين التشكيلين في بلادنا ينظرون بحسرة إلى الفن الخزفي المهاجر أو المنفي والقابع وراء زجاج المتاحف، إيمانا منهم أنها تعود إلى تاريخ ضاع في صفحات التاريخ، أو أنها تجربة خاصة لا يمكن إشهارها، غير أن الحسرة تولد الصحوة.
وكان من بين هذه الصحوات، في صالة بيت الرؤى للفنون التشكيلية ملتقى فني بعث الحياة في الصلصال من جديد، يحمل عنوان معرض الخزف الفني (نار الخلود) الذي أكد فيه الفنان زكي سلامة في حديثه الخاص مع (eSyria) أنه مهم لتسليط الضوء إلى أين وصل الخزف السوري. مشيرا أن نار الخلود حول تحفة الطين إلى تحفة أبدية موجودة بأكثر من مسار في المنطقة وبأكثر من أسلوب وبأكثر من سهم وتوجه.
لم يقتصر المعرض الخزفي بقطعه البالغ عددها قرابة الأربعين قطعة على الشكل التقليدي المتعارف عليه (إناء، جرة، صحن...)، بل تم تنقيح هذا النموذج التاريخي بنتاج التراث وقيمته مدخلين عليه تلافيف وزخارف الممزوجة بماضينا، والمسقط عليها ملامح عصرنا. كما تم في هذا المعرض الخروج عن اللون التقليدي للفن الخزفي ودليلا على ذلك الفنان علاء نبهاني وهو أحد المشاركين، قال عن تجربته من خلال حديثه: "مشاركتي من خلال المعرض بأربعة أعمال، تتمحور حول تحريك الكتلة الخزفية من خلال اللون، والخروج عن اللون التقليدي".
أعمال الفنانون المشاركون (آمال مريود، إيملي فرح، رزان حسن، زكي سلام، سناء فريد، علاء نبهاني، فواز البكدش، فوزية خانجي، كلارا صباهية، مصطفى علي، نذير نصر الله، نهى علي، هناء ديب، وائل دهان، وفاء اسعد، نزيه الهجري)، صنعت بطريقة سلسلة ومقروءة تصل إلى غالبية العامة وبدون تعقيدات أو رموز، على حد قول سمير نصر، طالب في معهد الفنون التطبيقية، كما بين أن رغم تواضع هذه الخطوة إلا أنها بداية للمشوار الخزفي.
حقق نار الخلود من أهدافها أن اجتمع الخزافون الذين معهم تلاقت الثقافات والمعارف، إلا أن استمراره في المستقبل يبقى رهناً بجهود متفانية تسعى إلى تحقيق ما يساعد على جمع طاقات مبدعة تترك العنان لأصابعها تغوص في تربة الكون، تعجنه بالماء، وتخلده بالنار، ليبقى حاضراً في تراث لا يندثر.
وبالعودة إلى المصادر التاريخية نجد أن صناعة الفخار هي من أوائل الفنون التي ظهرت على الأرض، فقد صنعت أقدم الأواني بالأيدي من الطين الخام المستخرج من الأرض، وقد تعددت أساليب إنتاج الخزف، وتعددت الزخارف التي يحلى به، كما تعددت استعمال الرسم بالألوان، مثل الطلاء الزجاجي الشفاف، التذهيب فوق الطلاء، والمينا فضلا عن البريق المعدني.
إذا رحلة العمل الخزفي بين الفكرة والتجسيد هي رحلة طويلة، شاقة، ومحفوفة بالأخطار، ولا يجعلها قصيرة سوى خزاف متمرس يعرف ما يريد، فيصل إليه عبر أدوات حرفته. ومن هنا فإن الخزف الفني والخزف الحرفي وجهان لعملة واحدة. وقد حق قول الخزاف برنارد ليتش (Bernard Leach) والياباني شوجي هامادا (Shoji Hamada) أن على الخزف أن يكون من صنع صانع فنان، يجمع العقل والقلب واليدين، ليبدع عملاً فنياً متكاملاً.