«ما جئتك شاعرة على منبر فوق كل مديحة أنت، وإنما من تحدي التحدي، من شبيبتك الظافرة، من رجال زرعت فيهم البطولة والإباء... فمن أجدر منَّا بمحبتك وأنت السيف الدمشقي الأصيل... رغبت يا أبي.. ألاَّ يمر عيد الشبيبة في هذا العام مثل كل عام.. وكانت رغبتي جامحة أن أكون شعلة هذا العيد على أرض الجنوب الطاهر، قنبلة تُزهر غضباً وغِلاً في مآقي الغزاة».
بهذه الكلمات الصادقة والمعبرة استهلت الشهيدة "حميدة مصطفى الطاهر" رسالتها التي رسمت أحرفها ووقعتها بالدم، ووجهتها إلى القائد الخالد "حافظ الأسد" قبل أيام معدودة من استشهادها على أرض الجنوب اللبناني.. عروساً زُفت إلى ساح الجنوب.. قنبلة تفجرت وسط الأعداء، لتكون منارة تهتدي بها الأجيال نحو مجد ناصع.
ولدت "حميدة" في مدينة "الرقة" عام /1968/، وسط أسرة تشق طريق الحياة بصعوبة، لكنها تعشق العمل وتتفانى في خدمة المجتمع، تعرضت في طفولتها إلى أكثر من حادثة كادت تودي بحياتها، آخرها وهي في الصف الأول الثانوي، حيث تعرضت لحادث سير نجت منه بأعجوبة، وكأن الله عز وجل اختار لها أن تموت شهيدة، وتكون مثالاً يُحتذى من الآخرين، وترتاح نفسها مطمئنة في جنان الخلد
موقع eRaqqa التقى السيدة "مكرم محي الدين" والدة الشهيدة "حميدة الطاهر" بتاريخ (10/11/2008)، وحاورها عن مسيرة حياة ابنتها البطلة وظروف استشهادها، وكيف تنظر إلى عملها البطولي بعد كل هذه السنين، تقول: «ولدت "حميدة" في مدينة "الرقة" عام /1968/، وسط أسرة تشق طريق الحياة بصعوبة، لكنها تعشق العمل وتتفانى في خدمة المجتمع، تعرضت في طفولتها إلى أكثر من حادثة كادت تودي بحياتها، آخرها وهي في الصف الأول الثانوي، حيث تعرضت لحادث سير نجت منه بأعجوبة، وكأن الله عز وجل اختار لها أن تموت شهيدة، وتكون مثالاً يُحتذى من الآخرين، وترتاح نفسها مطمئنة في جنان الخلد».
وتتابع السيدة "محي الدين"، قائلة: «كانت "حميدة" متفوقة في جميع الصفوف الدراسية، وتميل إلى كتابة الخواطر والشعر، وتحب المطالعة، وهي رائدة على المستوى الشبيبي في مختلف المواد العلمية والثقافية، وتشارك في الندوات، والمناظرات والمسابقات على مستوى القطر، لكنها تميل إلى التعصب لعقيدتها البعثية، وقيم الحق، خاصة ما يخص حقوق الشعب الفلسطيني، والوحدة العربية، واسترجاع الأرض المغتصبة، وتهتم كثيراً بشؤون المنزل، وتحلم أن تكون طبيبة ناجحة، وعندما نجحت إلى الصف الثالث الثانوي، كانت قد أنهت معظم مقررات الشهادة الثانوية، الفرع العلمي، وفي منتصف شهر آب من العام /1985/ غادرت "الرقة" متجهة إلى "دمشق" للمشاركة بأحد أنشطة الشبيبة، لكنها لم تعد، وقلقنا عليها كثيراً، وبدأت مع والدها مسلسل البحث عنها في كل مكان من سورية، إلى أن وصلنا إلى لبنان، لكن دون جدوى، فقد صممت على تنفيذ مخططها الذي أرادت رسم معالمه بقوة وإرادة وتصميم لا تتوفر إلاّ عند الأقوياء، وأخيراً عرفنا بأمر تنفيذها للعملية الاستشهادية، في البداية حاولت ألاَّ أصدق موضوع العملية الاستشهادية، لكنني مع التداعيات التي واكبت غيابها، وتقولات الناس، تمنيت أن ينتهي الأمر كما تريد، وبتاريخ (10/10/1985) تلقيت رسالتها الأولى من خلال إحدى رفيقاتها، وتأكدنا من عزمها على تنفيذ ما تريد، وفي رسالتها تقول: (سامحوني لأنني خرجت دون أن أقول لكم عن الحقيقة العظيمة التي أخفيتها، والتي سافرت لأجلها، والتي ستتحقق بها سعادتي.. وما دمتم تريدون سعادتي فلا تحزنوا علي، بل احتفلوا بالعرس الذي سيحتفل به كل الناس... أمي أريدك أن تعرفي أنني سأصلي آخر ركعتين قبل الانفجار بثوان، وروح ابنتك ذهبت إلى جوار ربها طاهرة كما عهدتها..)، هكذا كانت رسالتها تفيض شوقاً وحباً للقاء ربها، متوجة عزيمتها الصادقة بالانتصار إلى مبادئها ومعتقدها الذي لا تحيد عنه قيد شعرة».
أم الشهيدة "حميدة" لا تخفي دموعها، وهي تحدثنا عن ابنتها البطلة، وتقطع سيل الذكريات المتدفق، لتقول: «كنت أتمنى أن تتكلل جهود المقاومة الوطنية اللبنانية، أثناء تنفيذها عملية "الرضوان"، التي شملت استرجاع المعتقلين من سجون العدو الصهيوني، واسترداد جثامين الشهداء، أن تمنحنا بصيص أمل باسترداد جثمان "حميدة"، لكن هيهات، فابنتي أبت إلاَّ أن تكون منثورة على سفوح الجنوب اللبناني، وهي منذورة لأن تكون رمزاً للبطولة والتضحية لاسترجاع كامل الحقوق العربية المغتصبة».
وتتابع أم الشهيدة، قائلة: «في رسالتها أيضاً تطلب مني أن لا أقف حائلاً أمام أحد من أخوتها إن أرادوا اختيار طريقهم مثلها، وتؤكد بأنني إن فعلت ذلك فكأني أنزل القرآن من بين أيديهم، وهي ترجوني قائلة: (حافظي على روحك التي تعلّقت بها في الفترة الأخيرة دون شعور... أمي قصصت شعري بلحظات الانطلاق لأنها أعظم ذكرى، وأغلى شيء عندي كما تعلمين)، إلى أن تقول في نهاية رسالتها: (رغبت أن أكتب رسالتي بدمي، لكني أرفض أن أموت بغرفتي، أريد أن أتفجر وسط أعدائي وأعداء الله.. وهذه أمنيتي الوحيدة، ولا شيء أتحسر عليه سوى أنني هل سأعرف ما فعلت بهم أم لا..)، وهكذا انطلقت أكثر من مرة لتنفيذ عمليتها الاستشهادية، إلى أن جاء الموعد المحدد يوم (26/11/1985)، واستطاعت أن تفجر نفسها بسيارة مفخخة بكمية تزيد عن /280/ كغ من مادة (التي أن تي)، في جنوب لبنان، بمنطقة "جزين"، في موقع عسكري مشترك للعدو الصهيوني، وجيش "أنطوان لحد"، حيث قُتل فيه أكثر من /50/ شخصاً، وعشرات الجرحى، وفيهم عدد من الضباط والجنود الصهاينة».
وضوء الدم..
ويروي لنا المخرج المسرحي "وليد الطاهر" شقيق الشهيدة "حميدة" آخر الأحداث التي عاشتها برفقة عدد من الضباط السوريين المشرفين على تدريبها، بقوله: «بعد فشلها عدّة مرات بالوصول إلى تحقيق أهدافها، طالبوها بالعزوف عن قراراها بتنفيذ العملية، خاصة بعد فشل رفيقتها "ميلا" بتنفيذ عمليتها، وأسرها من قبل قوات العدو، لكنها أبت التراجع، مصممة بعزيمة الرجال أن تنفذ ما تريد، وقبل المضي بتنفيذ العملية في ظهر اليوم المنشود، توضأت، ثم صلّت ركعتين، وأرادت ركوب سيارتها، فتقدم منها أحد الضباط يريد توديعها، فاعتذرت منه قائلة، أريد أن أقابل ربي، وأنا متوضئة، كانت تتمنى أن تكون سيارتها بيضاء، ولباسها أبيض، وكما قالت في رسالتها: (تمنيت أن تكون سيارتي بيضاء، ليكون كفني أبيض، ولأنني عروس سوف ألبس إذا سمحوا لي لباساً أبيض)، لكن ظروف تنفيذ العملية، جعلت من سيارة العروس زرقاء، ولباسها لباساً عسكرياً، فقد استقلت سيارة أحد ضباط جيش العدو، الذي أسرته القوات السورية، وتنكرت بمثل زيّه، لكي تستطيع تجاوز الحواجز المنصوبة في طريقها الوعر، والوصول إلى غايتها المنشودة، وتنفذ عمليتها الاستشهادية على أكمل وجه، وأن تقتل العدد الأكبر من الأعداء».
أما شقيقها المهندس "محمد الطاهر" فيروي لنا آخر محطة قامت بها بتاريخ (9/10/1985) عندما كان تنفيذ العملية في اليوم الذي يليه، يقول: «جاءها الضابط المشرف على تنفيذ العملية، ليخبرها بموعد التنفيذ، مذكرها بأنها تستطيع التراجع في أي لحظة عن قرارها، وسألها إن كانت مصممة على التنفيذ، فطلبت منه التوجه إلى "الرقة"، قائلة: هذه رغبتي الأخيرة، ويقول الضابط: كنت أعتقد أنها عزفت عن رغبتها بتنفيذ العملية، وتوجهتُ برفقتها إلى "الرقة"، وكان الوقت عند المغيب، وعند الساعة الواحدة ليلاً وصلنا إلى جسر "الرقة" الجديد، فطلبت مني التوقف، فترجلّت من السيارة، ووقفت عند حاجز الجسر لدقائق، تعب من نسائم الفرات، وتستمع إلى خرير مائه، فطلبت مني الدخول إلى "المدينة"، وأشارت لي بالمرور بهذا الشارع وذاك، إلى أن أوقفتني أمام أحد المنازل، وقالت: هذا منزلنا، فاعتقدت بأنها ستنزل بأي لحظة، لكنها فاجأتني بحزم، قائلة: توجه إلى "دمشق"، وعدنا بسرعة نشق الطريق باتجاه لا عودة منه لـ"حميدة" إلى بلدها جسداً، بل روحاً ترفرف فوق سمائها، تعلن بأنها حاضرة في وجدان كل حرِّ أبي».
وتنهي السيدة "مكرم محي الدين" حديثها، قائلة: «من ينظر إلى حكاية استشهاد "حميدة"، يعرف معدنها الحقيقي، وبأنها حفيدة "أسماء" و"الخنساء" و"خولة بنت الأزور" و"جميلة بوحيرد" بامتياز، نعم.. لقد كانت ذات شخصية قوية، وعزيمة لا تهين، تستبعد العواطف، وتحسم الصراع الداخلي الذي يقود إلى التردد، وهي كما قالت في متن رسالتها: (أعتذر لأنني لم أودعكم، لأنك يا أمي تعرفين أن هذه المسألة تتطلب حسماً بالعاطفة، ولو أننا نظل تحت سيطرة عواطفنا ما وصلنا إلى ما نريد ونصبو)، أليس هذا من عزيمة الرجال الأشداء، ممن لا يهابون الصعاب، لقد نفذّت ابنتي ما عجزنا عن تنفيذه مجتمعين».
حديث الصحف..
تحدثت الصحف اللبنانية عن عملية الشهيدة "حميدة الطاهر"، ووصفت الدخان المتصاعد وألسنة اللهب المنبعثة من الموقع، وسماع دوي الانفجار الهائل، بأنه أحدث الرعب في نفوس كل من رآه، وشوهد الموقع يحترق من مسافات بعيدة، فيما تناقلت الصحف السورية والعربية الحدث بأنه استطاع أن يجلجل الكيان الصهيوني، وبث التلفزيون السوري، رسالتها الأخيرة في نشرة الأخبار الرئيسية، مع نتائج العملية، وما أحدثت من أثر في العالم، وبعد يوم من استشهادها أقيم في مدينتها "الرقة" مسيرة حاشدة، خرج فيها جموع أهل "الرقة" ومن المحافظات السورية الأخرى، وكتبت صحيفة "الثورة" السورية على صدر صفحتها الأولى: يوم عز وابتهاج وطني باستشهاد البطلة "حميدة الطاهر"، وأيضاً: عرس شعبي كبير في محافظة "الرقة" يشارك فيه أكثر من ربع مليون مواطن.. وبرقية عهد بالدم للقائد "الأسد"..
يذكر بأن الرئيس الخالد "حافظ الأسد" قد خصها بالعديد من خطاباته، وأصبحت مقولة: (الشهادة قيمة القيم، وذمة الذمم)، مقرونة باسم الشهيدة "حميدة مصطفى الطاهر"، كما أن إطلاق اسمها على الثانوية التي تعلمت بها، إضافة لتسمية العديد من المدارس والوحدات والروابط الشبيبية والقاعات العلمية والشوارع في سورية باسمها إلى ما شاء الله، هو جزء يسير من حقها علينا، لأننا مدينون لها بإقدامها بشجاعة على هذا العمل البطولي، الذي سيظل ناصعاً في سجل الخالدين، كما يذكر بأن محافظة "الرقة" قامت بنصب ضريح الجندي المجهول في موقع "تل البيعة"، الذي ضم في ثراه لباسها، وبعض من شعرها، إضافة لصورها وكتاب عنها، وسجل ذكرياتها، ضمن صندوق حديدي، سيظل ذكرى حيّة إلى الأبد.