"أسعد عرابي" فنان تشكيلي سوري، مترحل بين "باريس ودمشق"، عرف عنه الإلمام الواسع ببدائع الحكمة الصوفية والبصيرة والحدس، يوحدها معاً قي منظومة فلسفية معمقة تنقله حسياً ووجدانياً من ظاهر الشكل إلى جوهره المحتجب بالدلالات، فكان تفرده في البحث عن درجات السمو الصوفي في اللون والتكوين المستقدم من الخيال أو من الفن الإسلامي والعربي أو من الأثر الدمشقي التاريخي، ملخصاً لتجربته الفنية ودراساته النقدية الباحثة فيه بأنها النور على النور.
للتمتع بكشف خبايا ذاكرة eSyria إلتقى الفنان "عرابي" بتاريخ 14/3/2009 في معرضه "حوار بصري" في "غاليري أيام ـ دمشق"، وكان الحوار التالي:
** دائماً البداية تكون بالعودة إلى ساحة الدراسة في كلية الفنون، فالمشروع الذي تخرجت على أساسه عام /1966/ كان موضوعه هو نفسه موضوعي الأثير الذي إستمريت فيه فترات طويلة ولا زلت أراجعه حتى اليوم، وهو المنطقة الشهيدة من "دمشق" التي دمرها بلدوزر مشروع "إيكوشار" ما بين منطقة "العيبة" وسوق "ساروجا"، وأهمية الموضوع بالإعتراض على تدمير ثلث المدينة المستمر حتى اليوم.
وهذا الموضوع حاولت أن أحققه بلغة تشكيلية ثنائية مختزلة تتعلق بجوهر النظام المعماري في الواجهات الدمشقية.. وقد تحول هذا الهاجس الثنائي بعد فترة إلى البحث عن شمولية العلاقة بين العمارة والتصوير من جهة، والموسيقى الشرقية من جهة أخرى، هذا ما دفعني إلى إعادة دراستي الموسيقية في "أوروبا" وإنجاز أطروحة دكتوراه دولة في "السوربون" تحت هذا العنوان (التواصل بين الموسيقى والتصوير في المنمنمات الإسلامية) أي في رسوم المخطوطات أي أني سلكت سلوكاُ مناقضاً لمشروع "إيكوشار" الذي دمر المدينة وشوّه جداريات لا يمكن أن تنسى، وكان ذلك موضوعاً من الممكن أن يغذي "تربوياً" طلاب كلية الفنون الجميلة إلى عشرات السنين..
ضمن هذه الصبوة تحول أسلوبي التعبيري في "أوروبا" إلى ما يقرب التجريد الموسيقي دون الإنفصال عن دلالة الواجهات المعمارية الدمشقية، ثم هجرت التجريد بشكل حاسم لأدرس التكوين بين المدينة وسكانها من جهة العلاقة بين الساكن والمسكون. لقد قادني إستغراقي في الشخصيات الدمشقية إلى مراجعة عرائس خيال الظل والطريقة التنزيهية التي كانت تصمم بها والشائعة تحت إسم "كركوز وعواظ" وهي ما تستجيب إلى الأشكال المخصوصة والمألوفة في لوحتي مهما كان موضوعها معتمدة على عقيدة ثنائية الأبعاد ومسطحات لونية تقوم فيها الخطوط السوداء ولا تتطابق معها، بمعنى آخر التصوير بدون ظل ولا منظور ولا حجم، وإنما بالبحث عن جوهر الأشكال ضمن احتدامها التراجيدي المأزوم، وهو سبب إستعارتي فيما بعد للحيوانات الأسطورية السورية ثم معاشرة الإنسان للحيوان ثم الخلط بين هيئات الإثنين في شتى هذه التراوحات في الموضوع، من هنا كانت تتأصل لدي وتنضج الجوانب الأدائية أو بالأحرى تجريد اللوحة حتى بدأت أعرف بلوني الأصفر الخاص، وبسلوك فرشاتي الخاص، ودرجة النور الدؤوبة التي أستعين بها، وها أنا ذا اليوم أصور مجموعة موضوعها الطبيعة الصامتة لأول مرة وهي الكائنات التي تعيش في مهملات "دمشق" من خصائصها الدلالية والضوئية.
ولا شك أن المرحلة المتبلورة في التجريد قد عادت بطريقة ما لأنه في كل مرة تتحد المرحلة بتوليف مرحلتين سابقتين متعارضتين حتى مرحلة اليوم أي أن أي موضوع أطرحه يحمل بصمتي الخاصة الأدائية، التي ألخصها ضمن ثقافتي الصوفية بالنور على النور.
** على العكس تماماً هي من أعقد الأمور التي تربك من يدعون أنهم يصورون واقعيا ً ومن يدعون أنهم منفصلون عن الواقع و يصورون تجريداً، فإذا تجاوزنا هذا التقسيم التعسفي أقول وبكثير من القناعة إن الفنان غير القادر على تحليل العالم المرئي عاجز عن إبتداع علاقات موازية له، ولكن هذا لا يعني أن الإستحواذ على المشهد الواقعي يعني أمانة الوصف الواقعي، فبالعكس هذا الإستحواذ يفترض إعادة بناء العالم بطريقة حديثة حلمية تنحى منحى الإقتراب من الحدس أكثر من المرئي، وهو الفرق الفلسفي الصحيح لدى المتصوفة بين البصر والبصيرة وبين السماع والسماعي .
** تأثرت بالمعالم الأثرية السورية لفترة مديدة قبل عودتي إلى موضوع "دمشق"، ففي معرضي السابق الغني بالأساطير والميثولوجيا الآرامية الكنعانية حاولت من خلال هذه الاستعارات الصورية بناء ميثولوجيا معاصرة، فصممت الخط الذي أعمل عليه وهو التشخيصية المحدثة، ناهيك أن سبب إختصاصي المعمق بالفن الإسلامي اضطرني أن أدرس بنفس العمق الفنون السابقة للإسلام وبكل فروعها..
** الحقيقة أن ثنائية البناء و التدمير لم تتوضح إلا منذ بشارة الفنان الفرنسي "بول سيزان" التي تجسدت فيما بعد وبشكل صريح أكثر لدى التكعيبية عند "بيكاسو وبراغ و جوان غيري"، فتدمير الشكل الموصوف دلالياً يهدف إلى إعادة بنائه من الناحية "السيمروجية ـ الدلالية"، وهكذا حتى وصلنا إلى ما سمي اليوم "المنمالية ـ الإختزالية" التي تبتلع كل التفاصيل ولا تبقي إلا النذر اليسير في العمارة العامة للوحة لأن فن التصوير يعتمد على الإلماح أكثر من التصريح، ولكل شكل واقعي أبجديته الأولى وعلى الفنان الغوص في رقابته البصرية له حتى يصل إلى وجدانية الشكل أي بصيرته ويبلغ درجة التواجد و الوجد.
** تقصد علاقة المعاش بالطرف الوجداني للوحة بمعنى آخر يمكننا القول: أن هناك عالماً خارجياً يملك نواظم نوعية وعالم داخلي يملك نوظم رديفة، الطريقان يعاني من نفس الصيرورة أو الديمومة وبمعنى أدق ومجهري النواظم لا تنعكس فقط على العالم المعاش إلا بما يستحوذ عليه الحدس أو الوجدان، وهذا يعني أن اللوحة تعكس العالم الداخلي أكثر منه الخارجي.
** الدراسات التي قدمتها سواء كانت بالعربية أو بالفرنسية هي دراسات تنتمي إلى إختصاصي، وهي "علم جمال الفن الإسلامي والعربي" ضمن منهج معروف هو (المنهج المقارن) لكنه أكثر فاعلية وانتشاراً، والدراسات شاركت فيها في المنابر البحثية العربية إما ضمن "البينالات" أو بصيغة جامعية كما حصل في "المغرب" لفترة طويلة وهي أنني كنت أدرس المادة بشكل موسمي كل عام في مدرسة الفنون في "الكزابلانكا ـ الدار البيضاء"، وساهمت بمهرجانات "أصيلة" كما شاركت ببرنامج الجامعة الصيفية في "حسيمة" وهكذا..
** ما كان يثيرني هو ما يتناغم أساساً مع أسلوبي المحمول معي أي أنه لا يمكن رغم إطلاعي على كل الاتجاهات أن أتـعايش مع تيار مناقض لشخصيتي الفنية، فأنا مثلاً من المتعصبين لتقاليد السطح التصويري الذي يشاركني به خط أساسي في الفن وهو الفن الحديث يعكسه الفن المعاصر الذي ينحى منحى تبديل وسائط اللوحة بوسائط أخرى..
لم يثر إهتمامي مثلاً التعبير بالفيديو أو بالصور الرقمية (الكمبيوتر) ولا كل ما هو عقلاني بنائي مثل "الميناميرزم الهندسي ـ الإختزال"، وذلك لأن ثقافتي صوفية وما كنت أبحث عنه في اللوحة إستمر رغم إغنائه بهذا التفتح والحوار الجديد، فأنا أصبو منذ البداية إلى طقوس في اللوحة تحقق الوجدان الوجودي ثم الوجدي.
** أنا أملك بعض الاختلاف فما يهمني في "فرنسا" ليس موروثها الثقافي بل حاضرها الثقافي، وليس بسيطاً أن أحمل بشكل أكيد مع حقائب سفري موروثي الشخصي، فعندما بدأت الإقامة في محترفي في "باريس" كنت قد تشكلت فنياًُ وأسلوبياً، وما حصل هو إغناء التجربة المحمولة والتأكيد على جانبها الشمولي والخروج من جوانبها المغلقة، وبالتالي متابعة التيارات الحداثية وما بعد الحداثية والإحتكاك بمحترفات الشرق والغرب التي تهاجر مثلي إلى مونوبول "باريس" الفني.
** ليس من وظائف اللوحة والفن عموماً الإلتزام وإنما عكسه، وهي الحرية المطلقة لنتأمل العملية الثنائية في اللوحة القائمة على البناء والتدمير حيث تجري العملية بطريقة عقائدية غريزية بمعزل عن رقابة العقل والأخلاق والمجتمع والأيديولوجية.. فأنا أصور ملاآت سوداء دمشقية على سبيل المثال لأسباب فنية بحتة لها علاقة بتوقيع الأسود في اللوحة رغم معارضتي الجذرية للحجاب، فاللوحة تملك أخلاقاً خاصة ونواظم خاصة، فهي كائن عضوي مطلق الحرية خارج السرب والأمعية واللون الواحد منشقة عن رأي الدهماء والجماهير وحتى المجتمع، وأيضاً الجانب الذي نسميه النقد الاستفزازي والذي لا يشكل إلا ثمرة نشاط ممارسة الحرية المطلقة في الفكر والمادة ورهافة الحس والأداء.
** لابدّ من الإشارة أحياناً ودون قصد إلى عدم دقة المصطلحات النقدية.. فهناك الفن الفطري، والبدائي، والبكري، والعصابي، و الهذياني، والطفولي، والحلمي الذي له علاقة بالسريالية، وجميع هذه الفنون ترتبط بجهاز معرفي سحري أساسي هو الحدس الذي يسموه حاجة الذوق المتصوفة بالقلب، ويفصلون بالتالي بين البصر والبصيرة وبين الباطن والظاهر وبين السمع والسماعي متفقون حول أن العقل لا يمثل الدرجة الدنيا من الحكمة، من هنا أفضل أن لا نفوق حالات التجلي والكشف والسلطنة..
ومن شتى هذه الأحوال نجد أن اللوحة هي نتاج مستقيل من المحسنات البديعة وقواعد التشريح الأكاديمية والمهارة في رصف الفراغ الناتج عن العناية بالمنظور والظلال، فاللوحة لا تتجاوز حدود التداعي الغريزي أو العفوي، وهو ما يضمن التواصل مع نواظم الكون أكثر من التفاخر بحذاقة التعلم وتطويع الأدوات.. الفن المعاصر اعتنى بهذه الفنون واستلم منها أكثر من اللوحات الأكاديمية بذات المهارة الواقعية لنتذكر على سبيل المثال تأثير الأقنعة الإفريقية على الفنان الإسباني "بابلو بيكاسو" ، والفن الإسلامي على الفنان الفرنسي "هنري ماتيس"، وفنون الأطفال على الفنان الألماني "بولكلي"، والعصابي على الفنان الفرنسي "جان دبوني" وهكذا..
** ينقذنا في هذا المقام كتاب "الغزالي" (مشكاة الأنوار)، وهو كتاب صغير الحجم يسجل فيه القطب تعاليمه على المريد، ويستحضر المعلم عدد من العيوب البصرية السبعة التي تخطئ بها العين فيذكر مثلاً: أن البصر يرى الآخر ولا يرى الذات، يرى البعيد صغيراً والقريب كبيراً. ومن العيوب السبعة نستخلص أن الفن الإسلامي كمنهج يبحث عن الباطن في الرؤية وليس في الظاهر. يصور مثلاً العمارة الجبهوية وما خلفها المخفي يرسم الإنسان بنفس الشيء سواء قريب أو بعيد ويلغي الظل وأحادية المنظور والمصدر الضوئي وكأن المشهد فلكي يجري في المطلق، وهو ما نسميه تجاوز الفراغ المعراجي أو الروحي، هكذا أفهم البصيرة وأفهم تطبيقاتها على الفن الإسلامي، ولا أنكر تأثري بمنهجها.
** إنه باقة أعمال الطبيعة الصامتة، الماثلة عن صيغ الأداء.. إنها المنجزة في فترات مبعثرة داخل زمان العام /2008/ ما بين "دمشق وباريس"، علماًَ أنها ليست المرة الأولى التي انعطف بها موضوعي الأثير ـ "دمشق" لأضعه في حالة تعويم أو بالأحرى لأخرج من سكونية الموضوع خشية التنميط الإجتراري أو التكرار، فأنا لم أتطرق سابقاً إلى موضوع الطبيعة الصامتة ومجموعة الأعمال لا تمثل إفتجاءً على مستوى الحساسية التشكيلية: البنائية منها أو الضوئية أو اللونية، فالستارة البيضاء ما هي إلا ذريعة لفرش مساحة مشبعة بالنور تغذي بقية الألوان بذائقة تجريدية بنائية، كذلك الأمر بالنسبة إلى إستعادة نفس الصراع المتنازع بين الخطوط السوداء الغريزية السيالة ومساحات الصباغة الباردة والحارة.. إن أعمالي تبدو وكأنها كائنات حملت الهوية الدمشقية رغم شدة ترحالها عن المدينة الأم.
ببلوغرافيا الفنان
ولد الفنان "عرابي" في "دمشق" عام /1941/، تخرج من كلية الفنون الجميلة ـ جامعة "دمشق" عام /1966/، حاصل على دبلوم المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة "باريس" عام /1983/، دكتوراه في علم الجمال والفن من جامعة "السوربون ـ باريس" الأولى عام /1987/، يقيم في باريس منذ العام /1975/، له دراسات ومقالات بالفرنسية والعربية في المجلات المتخصصة، أعماله مقتناة في متاحف عالمية مثل" متحف سيئول ـ كوريا الجنوبية، متحف دلهي، ومتحف برشلونة، ومتحف دانكرك للفن المعاصر ـ فرنسا"، وله العديد من المعارض الشخصية والمشاركات في معارض محلية وعالمية.