تزخر محافظة "ريف دمشق" بالكثير من الشخصيات التي شهدت محطات محورية في تاريخ الوطن، وتأثرت بها، وربما أثرت في بعضها. وموقع eSyria في سعيه للتنقيب عن هذه السير ونفض الغبار عن تفاصيلها وصل إلى أحدها، وهو "الحاج حسن سنقر" الذي استقبلنا في بيته بمدينة "يبرود" برحابة صدر وكرم الضيافة.
«كانت أيام زمان أيام خير، كانت المياه كثيرة، والأرض معطاءة والإنسان أكثر طيبة»، هذه كانت أولى الكلمات التي بدأ بها "الحاج أبو عمر" جوابه على سؤالنا عن أهم ما يميز أيام زمان؟ وأضاف:«كنا نستورد البطاطا من "قبرص" لنزرعها، و بعد جني المحصول كانت كل عائلة تحتفظ (بمؤونتها) ثم نرسل الباقي إلى محافظات القطر، وكان الرجال يخدمون الأرض فتعطيهم خيرها، كنا نقلب الأرض في كل عام مرة، فقد كان الشباب يحفرون الأرض بالجروف ويلقون التراب جانبا حتى يصبح الحقل حفرة واحدة بعمق يفوق طول الإنسان، ثم يقلبون التراب ويعيدونه إلى الحفرة، وبذلك تستعيد الأرض حيويتها، وجميع أفراد العائلة يعملون بالأرض، الرجال والنساء، كبارا وصغارا، وكان أمل الناس محصور في الأرض فلم يكن يتزوج أحد إلا (على الموسم)، أعلى بناء كنت تراه مؤلف من طابقين، وكان الأولاد جميعاً يتزوجون في نفس المنزل».
كانت أيام زمان أيام خير، كانت المياه كثيرة، والأرض معطاءة والإنسان أكثر طيبة
يعود تاريخ ميلاد الحاج أبو عمر إلى عام 1933، أي أنه أدرك الحرب العالمية الأولى وشهد رحيل الاحتلال الفرنسي عن أرض الوطن، وحضر تعاقب الكثير من الحكومات على السلطة في سورية، فضلا عن صعود أمم وسقوط إمبراطوريات في العالم. وعند سؤاله عن أهم المحطات المحورية في حياته قال:« أذكر تماما فترة الاحتلال الفرنسي، والمعاناة التي شهدناها أيامه، فقد كانت الزراعة محدودة ومحصورة في ما يحدده من محاصيل في كل موسم، كما أن سلطات الاحتلال كانت تفرض (استهلاكاً) أي ضريبة على كل مزارع، فكانت الناس تطحن محاصيلها في الليل بعيدا عن عيون (المقدرين) الذين يأتون إلى الحقل ويقدرون كمية المحصول ليحددوا الضريبة، كما أن محصول البطاطا كان يخبأ في قبو الدار حتى لا يصادره الفرنسيون. لذلك كان للجلاء أثر كبير في حياة الناس، حيث أصبحت المطاحن بعد الاستقلال تعمل في وضح النهار، ودون خوف».
وعندما طلبنا منه المقارنة بين أيام زمان وهذه الأيام قال:«لكل زمان محاسنه ومساوئه، ففي أيامنا كان الناس يتصفون بالطيبة والبساطة، غير أنه كانت تمر أيام صعبة كأيام (السفربرلك) كما روى لي والدي، حيث كانوا يأخذون الرجال إلى الحرب دون أن يتوقع أحد عودتهم، وكانت تمر أيام وليال دون أن تجد في الحارة كلها قطعة خبز أو حفنة قمح، و كنا نخشى الذهاب إلى الحقل ليلا خوفا من الحيوانات المفترسة التي لا تجدها الآن، كما كان الناس الذين يحجون سيرا على الأقدام كثيرا ما يتعرضون إلى قطاع الطرق».
وعن أكثر ما يعجبه في هذه الأيام ويميزها عن أيام زمان قال "الحاج سنقر": «كان الواحد منا يسافر للعمل أو الحج أو إلى الخدمة العسكرية دون أن يعلم الأهل أين مكانه أو متى سيعود، أما الآن فالاتصالات سمحت للأهل بمعرفة تحركات أبنائهم خطوة بخطوة، كما أن وسائل الإعلام في أيامنا كانت محدودة إن لم نقل معدومة، فالحكومات كانت تتغير ويعزل رئيس ويسلم رئيس ولا نعلم، لذلك أجد هذا الوقت أفضل من هذه الناحية فالأخبار تأتيك لحظة بلحظة من كل ركن في الأرض، إلا أن هذه الثورة أثرت على العلاقات الاجتماعية في المنطقة، فالجار لا يكاد يعرف اسم جاره بعكس زمان كان الناس في الحارة روح واحدة».
وعن الحرفة التي يتقنها قال "الحاج سنقر": «كانت الزراعة هي الحرفة الرئيسية لمعظم الناس، وكان بعض الشباب يعملون في المصانع على قلتها، أما أنا فإلى جانب الزراعة كنت أعمل بالغزل أي صنع الخيم وأسرجة الخيل وبيوت الشعر التي يستخدمها سكان البادية، من شعر وصوف الحيوانات بعد صبغها وتجفيفها، ولم أتوقف عن العمل بهذه الحرفة إلا منذ سنوات قليلة نتيجة لأثر السنين من جهة، واختراع الآلات التي تؤدي نفس العمل من جهة أخرى».
بكل شجون ودون رغبة في انتهاء اللقاء سمعنا تجربة حياة "الحاج حسن سنقر" وجزء من حياة والده، وهذه السيرة ليست شخصية بقدر ما هي محطات في تاريخ الوطن لأكثر من قرن من الزمن.
فعندما كان الحاج أبو عمر في عمر الخامسة مثلاً لم يكن يعرف سوى (الضويلو) الذي يعمل على الكاز، والمؤذن الذي يقف على سطح المسجد ليبلغ عن وقت الصلاة، في حين أن ابن ابنة ابنته الذي كان يحمله خلال لقاءنا معه وهو في الخامسة الآن يحمل الهاتف الجوال ليسمع النغمات، ويلتقط جهاز التحكم ليجبر أهله على مشاهدة البرامج التي يريد على التلفاز.