بعد ساعة، يبدأ الأبيض المتوهج بالتلاشي، يذهب إلى الرماد، ثم تغطي السماء غلالة حمراء شفافة، تتكاثف فوق الرمادي، فتحس وكأن سيلاً من الدم قد انسكب في الأفق، ثم شيئاً فشيئاً تنسدل ستارة كتيمة سوداء على كل المشهد. هكذا يكون مخاض موت جديد، على هذه الأرض الواسعة.
موقع eSyria التقى الفنانة التشكيلية "أرز عبد الإله الأسمر" في مرسمها في مدينتها "سلمية" وذلك يوم الاثنين 31 آب 2009 وكان معها الحوار التالي حول تجربتها الفنية وهي التي تخرجت من كلية الفنون الجميلة في العام 2001.
ما تقدمه لنا "أرز الأسمر"، ليس رسماً كما نعرفه، هو مغامرة للدخول إلى مواقع مجهولة، أو محظورة، في بؤرة الصراع بين الحياة والغياب، الحب والألم، الجمال والقتل، الحرية والبرقع الأسود، وهي ترسم حركة الجناح وليس الجناح، ترسم الصرخة وليس الحنجرة، والعطر وليس الوردة، ما هو مكتوم وليس ما هو معلن، ولا ترسم الجرح وإنما الألم نفسه، وقد ترسم الابتسامة وليس الوجه والشفتين
** هناك مشكلة عندنا، لأننا بعيدون عن العالم، عن التلاقح الفني مع الدول التي سبقتنا بمراحل في هذا المجال، ولكن لا ننكر وجود بعض الأسماء العربية التي تلعب دوراً هاماً في تحديد هوية فنية تشكيلية عربية، وهذا بدوره سينعكس إيجاباً على الفن بشكل عام، ولكن البعد عن فن الآخر هو ما يجعلنا ننظر إليه بعين الريبة أولاً مما يقدمونه، وبعين الحسد مما هو متاح لهم، وعلى العموم لا بد من التطلع الدائم نحو تقديم هوية عربية سورية من خلال هذا الفن الذي شكل هوية ذائعة الصيت لبعض البلدان التي انتشت سياحياً واقتصادياً من خلال احتضانها لمثل هذه الفنون، ومثالي على ذلك إيطاليا، وكذلك النمسا في مجال الموسيقا.
** تبدأ في تلك اللحظة التي أشعر فيها بحاجتي للرسم، حتى لو لم أستطع فعل ذلك، أحياناً هناك لوحات يأخذ التفكير في صناعتها سنين عديدة، وهناك التي نرسمها من فورنا، أما متى تنتهي؟ فأظن أنها تنتهي عند اكتمال حالة التعبير التي كنت أقصدها من خلالها، فربما لو عدت إليها بعد ذلك، فإنني سأعبث بها بشكل سلبي وغير مجدٍ، وبالتالي لن أقترب منها طالما أنها عبرت عن اللحظة الشعورية التي كنت أعيشها، لأجلها.
** لا يهمني وضع الفكرة، الفراغ هو ذلك التوازن، وهو الهواء الذي تتنفسه اللوحة، وهذا لا يعنيني في بادئ الأمر، ولكن متى أنتهي منها، يمكنني أن أفكر بهذا الفراغ، الذي لم يأت من فراغ إطلاقاً، من هنا لا بد من وجوده فيزيائياً ضمن الخطوط المشكلة للوحة.
** لا أعتقد بوجود لوحة أضطر لرسمها، ولكن هناك شيء بدأ يتسلل إلي في هذه الفترة، فبسبب الحاجة المفترضة مادياً كنا نقع تحت رحمة أصحاب الأهواء ممن يريد رسم عزيز عليه من ذويه أو ممن يخصه، وحتى الآن لم أستطع الإقدام على رسمها بالطريقة الواقعية التي يريدونها، ولكن لو طلب مني رسمها مع شيء مما أحسه، وأشعر به، عندها يمكن أن أقدم على ذلك وأنا مطمئنة لما سأرسمه، فأنا أصوغ اللوحة بالريشة، ولست ناسخة (فوتوكوبي).
** أهم شيء تقدمه هذه المعارض هو خلق ثقافة بصرية، والفنان الذي يحجم نفسه عنها يبعدها عن التطور، وأنا في تواصل دائم مع المعارض التي تخص غيري من الفنانين، ففي كل منها ما يمكنه أن يزيد من خبرتي، الشيء الآخر من إقامة المعارض هو أن هناك فناً يجب أن يطّلع عليه العامة، والخاصة من أهل الفن، والوقوف عند المراحل التي طرأت على الفنان، ودراسة الخط البياني له.
** هناك لونان اثنان، البرتقالي (الأورانج)، والأزرق، أحب كثيراً خلق مساحات من اللون الأزرق، ولكن لا أعرف لماذا، أما اللون الآخر فأستخدمه في المحطة الأخيرة من عمل اللوحة، فأنا أحب أن استخدام تدرجات هذا اللون ولو برسم خط في أي مكان من اللوحة.
** أوافق هذه المقولة إلى حد ما، فالمسافة الزمنية التي عبرها هذا الفن جعل من بعض رواده يكررون عن قصد أو بدونه أعمالاً لمن سبق، وهذا قد يعود لما يسمى تداعيات، ولكن حقيقة الفن تكمن في هذه (الهزّة) التي تسري في جسد وعقل المتلقي، والفنان الآخر، من هنا يمكن أن أقول أن الفن الحقيقي، هو الفن الذي يمنح صاحبه تميزاً، وهذا ما يقرره الزمن، وكثر هم الذين نالوا هذا التميز، وصنعوا هذه (الهزة) بعد رحيلهم بفترة طويلة. أتمنى أن أكون ممن يصنعون هذه (الهزة).
** ليس بعيداً عنا التشكيل المسرحي فهو في صلب رؤانا التخيلية، من هنا كان أكثر مصممي الديكور، ومصممي الملابس هم من خريجي الكليات الفنية، بالنسبة لي فقد شاركت كمصممة ملابس في مسرحية "انتظار.. اللعب مع بكيت" وهي من تأليف "صموئيل بكيت" ومن إخراج الفنان "وليد قوتلي"، كما شاركت كمصممة أزياء، وديكور في عدد من المسرحيات الموجهة للطفل، وأعتبر هذه المشاركات تجربة جيدة لأنها نقلتني من الشعور التخيلي الفردي، إلى التخيلي الجماعي، فما أتخيله يصبح مادة متحركة، أو تساعد على الحركة وهذا شيء مهم للفنان التشكيلي أن يشاهد أشياءه تتحرك وتكاد تنطق.
** في بعض الأحيان (نعم) وفي كثير منها (لا)، فالمال هو من يقرر، والتاجر هو العنصر الأقوى في اللعبة الفنية، ويمكن أن تقيس ذلك على باقي الفنون، ومنها الدراما،
* ماذا قدم لك الفن؟
** الغربة، والتوتر، والناس الذين يحيطون بي، كل هذا قدمه الفن، وأشكره كثيراً، وأعاتبه قليلاً،
** لأسباب مادية، فأنا لا أستطيع إقامة معرض. الإحباطات التي تحيط بي تشعرني أنني في حالة بعد عن اللوحة.
** الاسم هو انطباع، وكثيراً ما أغير بعض الأسماء، وهناك من اللوحات من الصعب تسميتها، ولا أظن أن هناك من داعٍ لهذه التسمية، فلندع كل الناس تسميها كما تحب، بذلك نمنح الآخر حرية قراءة اللوحة ولا نأسره بالاسم حين قراءته لها.
** هناك ردود أفعال قد تنطلق من بعضهم تنم عن غاية ما كانت مخفية لغاية في نفس قائلها، ففي بداية الأمر تجده معجباً باللوحات، ولكنه فجأة ينقلب كلياً، ويتقمص شخصية فنان مسرحي إذ يقول: (لوحاتك حزينة وكئيبة، ولازم تغيّري طريقة شغلك، وهي اللوحات ما خرج تعرضيها) لا أعرف ما الذي غيره، السر عنده، فأنا لا أشعر بلحظة من اللحظات أنني أرسم الحزن، فقط أنا أقدم انطباعاتي في لوحات.
** أجمل العبارات التي تسعدني تلك التي يعبر فيها أحدهم أن لوحة ما من لوحاتي أعتبرها تحاكيه، أو هي هو، هذا شعور رائع يتسلل إلى داخلي، وأعتبر أنني نجحت في ذلك. والعبارة التي تطلب منك المزيد تكون هي الدافع لمزيد من العطاء.
** أرسم الطرفين، وأحياناً أرسم شيئاً لا يشبه أحداً، أحياناً أرسم امرأة، ولكن.... كفى.
** يتطلب الفن كلمة واحدة (الحرية)، وقليلاً ما يظلم الرجل المرأة، بل هي من تظلم نفسها، الفن صادق، وحر، ومن المستحيل تقديم فن وهو مقيد، وأنا أقول أن البعض من المختصين أثناء الدراسة لعب دوراً سلبياً في خلق مثل هذه الحالات. وهناك مفهوم شائع مفاده أنه إذا لم تخجل فأنت فنان وقح، فبدل أن نقوم بتعلم فن التشريح على "موديل" كثيراً ما كانوا يقدمون لنا موديلاً من المستخدمين (الآذنة) العجائز، وأذكر مرة أننا اتفقنا مع شاب رياضي ذي عضلات مفتولة كي يقوم بدور الموديل مع أنه سيحتشم في مناطق عورته أي ليس كما يحدث في الدول المتطورة في هذا المجال، فقد تم زجرنا من قبل البعض، وكدنا نطرد من الجامعة، رغم أن هذا الذي يتشدق بالعفة كان في بعض حالات تفوقه، يتحدث عن مثل هذه الحالات، وكيف أنهم كانوا يرسمون موديلاً من النساء، فاليوم يبحثون عن طريقة يصبح فيها الفن محجباً، إن كانوا يسعون لذلك، لماذا وجود مثل هذه الكليات.
** الكلام بحد ذاته حلم، وليس اللوحة، فأنا أرى في الفن شيئاً من السراب كلما حاولت الوصول إليه، أجاهد كي أصل إليه.
** هناك في قاع الذات الإنسانية لكل شخص يرقد، الحلم قبالة الانكسار.. وترقد النشوة قرب الانطفاء، ويتواجه المرغوب والمكبوت، وتتكدس الأحزان في وجه الفرح الطفولي، اللوحات هي محاولة للقبض على ذاتي متورطة في إنسانيتي.. محاولة لرصد العوالم الداخلية لأشخاص عرفتهم وأحببتهم، كلما توغلت بهم.
أما رأي الأستاذ التربوي "عبد الإله الأسمر" والدها، فيتحدث عن الفن الذي تقدمه ابنته، فيقول: «بمعزل عن العاطفة، ولكن المهم أن أمتلك الثقافة الفنية، وأنا في الغالب تستهويني الطبيعة، على طريقة الشعر، فليس لي رغبة في الشعر الحديث، كذلك في الفن الحديث، وهذا بالتأكيد لا يقلل من قيمة هذا الفن، وإن كان لا يستفزني، وهناك من اللوحات ما تشدك إليها، كقصيدة حديثة، أو أغنية حديثة تمثل في مقوماتها النغمة والصوت والكلمة.
عن ابنته "أرز": «أنا أجد عندها شيئاً من التميز، واستغراقها في الفن، لديها الروح الفنية، وهناك ما يميزها، لكنها لم تشتغل عليه، فقد استغرقتها الحياة العملية مبكراً».
أما الكاتب "بندر عبد الحميد" فقال فيها: «ما تقدمه لنا "أرز الأسمر"، ليس رسماً كما نعرفه، هو مغامرة للدخول إلى مواقع مجهولة، أو محظورة، في بؤرة الصراع بين الحياة والغياب، الحب والألم، الجمال والقتل، الحرية والبرقع الأسود، وهي ترسم حركة الجناح وليس الجناح، ترسم الصرخة وليس الحنجرة، والعطر وليس الوردة، ما هو مكتوم وليس ما هو معلن، ولا ترسم الجرح وإنما الألم نفسه، وقد ترسم الابتسامة وليس الوجه والشفتين».
والجدير ذكره أن الفنانة التشكيلية "أرز الأسمر" هي من مواليد "سلمية" في العام 1979، وخريجة في كلية الفنون الجميلة في العام 2002
لها مشاركات عدة في معارض متنوعة، منها:
ــ 2003 معرض جماعي في المركز الثقافي الفرنسي/ "دمشق".
ــ 2003 ملتقى الشجرة الأول/ "مصياف".
ــ 2004 معرض فردي أول في المركز الثقافي العربي في "المزة"/ "دمشق".
ــ 2004 معرض فردي في صالة "دار المدى"/ "دمشق".
ــ 2005 معرض فردي في صالة "الشعب" (نقابة الفنانين التشكيليين) في "حمص".
ــ 2006 معرض فردي في صالة "كلمات" في مدينة "حلب".