تقع مملكة "إيمار" القديمة، بلدة "مسكنة" الحالية، عند الحدود الإدارية الحالية بين كل من "حلب" و"الرقة"، وتعتبر هذه المملكة الرائدة في تاريخ المشرق العربي، وهي من الممالك التي لعبت دوراً مهماً ورائداً في تاريخ الإنسانية.
ورد ذكرها في الوثائق الكتابية المسمارية المكتشفة في مملكة "ماري" في "تل الحريري" بالقرب من بلدة "البوكمال" الحدودية. وكان بين كل من "إيمار"، و"توتول"، "تل البيعة"، "الرقة" القديمة من جهة، وكل من "ماري"، "تل الحريري"، و"يمحاض"، "حلب" من جهة أخرى، علاقات ثنائية متطورة في المجالين السياسي والاقتصادي، وتشترك هذه الممالك والمدن الأربع بسمات ثقافية، وأخرى اقتصادية مشتركة.
من المصادفات الغريبة، أن أحد الزراع، وهو يحرث حقله الزراعي بالقرب من هذه المدينة في بداية النصف الثاني من القرن الماضي، أن يعثر على بعض اللقى الأثرية، مما حدا بالسلطات الأثرية في سورية، بالقيام بحفريات أثرية في هذا الموقع، إذ أنه قامت بعثة سورية ـ فرنسية مشتركة بالتنقيب الأثري المنهجي في "مسكنة"، "إيمار"، وذلك قبل أن تغمر مياه بحيرة "الأسد" بلدة "مسكنة"، التي كانت تطل على الشاطىء الغربي لنهر "الفرات"، والتي تبعد عن مدينة "الرقة" مسافة /100/كم غرباً.
كانت بدايات التنقيب الأثري طيبة ومشجعة، وقد أدت إلى الكشف عن آثار "مسكنة" الإسلامية "بالس"، وذلك أثناء الحملة الدولية لإنقاذ آثار حوض "الفرات"، قبيل تشكل بحيرة "الأسد" بدءاً من عام /1970/م. وقبل البدء بأعمال الحفر داخل أسوار المدينة القديمة، اتفق الجانبان السوري والفرنسي على إجراء أسبار أولية خارج الأسوار القديمة للمدينة، وبدءاً من الاسبوع الأول لهذه الحفريات، ظهرت مجموعة من اللقى الأثرية، وبقايا لأجزاء معمارية تعود بتاريخها إلى النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، ونتيجة لهذا الكشف الأثري الهام والمفاجئ، تم الاتفاق بين الجانب السوري ممثلاً بالمديرية العامة للآثار والمتاحف بـ"دمشق"، والجانب الفرنسي، ممثلاً بالمعهد "الفرنسي للدراسات العربية"، ومقره "دمشق", على إجراء أسبار أخرى متطورة، لتحديد طبيعة الموقع والزمن الذي بدأ فيه الاستيطان قبل الفترة العربية الإسلامية، حيث أن بعض علماء الآثار قبل بدء التنقيب، قد خمنوا أنّ "مسكنة" القديمة، هي نفسها "إيمار"، التي ازدهرت في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد.
يرى العلماء، ومنهم المرحوم الدكتور "عدنان البني" أنّ كلمة "إيمار" تعني أعمار، إذ قلبت العين ياءً، ومخرج الحرفين واحداً، أي البناء والسكن، وقيل إنها "مسكنة" من السكن، وسماها العرب "بالس"، وفي أيامنا هذه يقول الناس (خبرك ببالس عمار)، أي أنها كانت عامرة في يوم من الأيام، لكنها الآن تبدو أطلالاً متهالكة. لقد ورد ذكر "إيمار" في الرقم المسمارية المكتشفة في كل من "ماري" و"إيبلا"، على أنه فيها تنتهي الطريق البرية القادمة من السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، عبر "حلب"، "يمحاض"، إذ كان يتم نقل البضائع المستوردة من الغرب السوري، إلى بلاد الرافدين عبر "توتول"، "الرقة" القديمة، التي كانت تشكل ميناءً كبيراً وهاماً على "الفرات"، بين "ماري"، و"إيمار"، وإلى العصر البابلي القديم.
يعود وصف لطريق تجارية قادمة من "لارسا" في"بابل"، وهذا الوصف يأتي على ذكر محطات تجارية عبر "دجلة"، و"الخابور"، و"البليخ"، ثم "الرقة"، "توتول" القديمة. ويشير هذا الوصف، إلى أنّ "ايمار" تعد نهاية الطريق والرحلة.
إنّ اكتشاف "ايمار" العائدة إلى العصر السوري الوسيط، يعود إلى الرقم المسمارية التي تم العثور عليها في كل من "ماري"، "تل الحريري"، على "الفرات" الأدنى، وفي "توتول"، "تل البيعة"، "الرقة" القديمة، وأخيراً الرقم المسمارية التي عثر عليها في "ايمار" ذاتها، أثناء التنقيبات الأثرية التي نفذت فيها أعوام /1971/1972/1973/ ميلادي، والتي توقفت فيما بعد لعدة سنوات، ثم استأنفت، وما زالت مستمرة حتى هذا الزمن.
شيدت مدينة "ايمار" من مادة الحجر على شكل مدرجات (مصاطب)، كونها كانت مبنية على منحدرات المرتفعات الغربية والجنوبية، وتطل على النهر من الجهتين الشرقية والشمالية. وقد عثر المنقبون على بقايا مبانٍ حكومية، وعلى ثلاثة معابد، بالإضافة إلى المساكن الأهلية، وفي أحد هذه المعابد عثر المنقبون على /1500/ رقيم مسماري. أما المعبدان الآخران، فلهما مخطط طولاني ولكل منهما ردهة دخول، حيث عثر فيهما على ألواح حجرية محفور عليها أسماء الآلهة الذين نذرت لهم هذه المعابد، مثل "عشتار المدينة"، وإله الأنواء "تشوب"، والإله "حدد".
وفي شهر تموز من عام /1973/ ميلادي، نفذت المديرية العامة للآثار والمتاحف موسماً تنقيبياً آخر، تم الكشف عن سويات من العصر البيزنطي، وأخرى من الفترة العربية الإسلامية. لقد نفذ المنقبون مجموعة من الأسبار، تم العثور فيها على لقى أثرية هامة على شكل أوانٍ فخارية، تعود إلى فترة الألف الثاني قبل الميلاد، كما تم العثور على رقم مسمارية تتحدث عن مجريات الحياة اليومية في "ايمار"، وعلاقاتها مع مدينة "توتول"، ومع كل من "يمحاض"، و"ماري" على "الفرات" الأدنى.
كما أن هذه النصوص المكتشفة، ألقت الضوء على الدور الذي لعبه نهر "الفرات" في التجارة الدولية آنذاك، وعلى وجود عشائر عربية قديمة، مثل عشائر "البنياميين"، "الربيعيين"، كانت تمتلك من القوة، بحيث نازعت كل الممالك والمدن التي على "الفرات" في مرحلة الألف الثاني قبل الميلاد، مما اضطر مدناً قوية مثل "توتول"، و"ايمار" على إقامة صلح وهدنة مع هذه العشائر القوية.
لم يستمر التنقيب طويلاً في هذه النقطة، بسبب المشاكل الطبوغرافية من جراء الحفريات السرية، التي جعلت المنقبين ينتقلون إلى ورشة عمل أخرى، حيث أنهم فتحوا أسباراً جديدة، ومع ذلك كانت هناك مشاكل أخرى نتجت عن مسيل المياه، ومن المقابر الحديثة، وأيضاً الحفر السري من قبل تجار الآثار، إلاّ أنّ أعمال الحفر استمرت، وعلى المنحدر الشرقي للموقع كانت الأضرار أقل، وعلى هذا المنحدر كانت البقايا المعمارية متدرجة وفقاً للحالة الطبوغرافية لشكل المرتفع، مما ساعدهم على إنشاء سطوح متدرجة.
وقد عثر المنقبون على وحدات سكنية متوسطة، كل واحدة منها تضم عدة غرف، جميعها تطل على الحجرة الرئيسة، وبعض الوحدات السكنية الأخرى لها غرف تطل على الشارع الرئيسي، الذي كان مبلطاً، وهذه الوحدات تضم غرفاً كبيرة مقاييسها /4×7/ متر، و/4×8/ متر، وهذه المقاييس ما زالت مستعملة في بناء غرف البيت الريفي "الرقي". ولبعض الوحدات السكنية "حوش" مسوّر، وعند أسفل الأدراج عثر المنقبون على خوابي فخارية كبيرة، كما وعثروا على التنانير، والمواقد المحفورة في أرضية الحوش، كما، وعثر المنقبون على بناء ضخم فيه حجر بطول /10/ أمتار، وعرض/5،4/ متر، وهذا البيت هو نموذج لـ"بيت هيلاني" العربي.
في الحي الديني للمدينة القديمة من الألف الثاني قبل الميلاد، عثر المنقبون على معبدين عرض كل واحد منهما من /6/ إلى /7/ متر، وطول من /12/ إلى /14/ م تقريباً، ومخطط كل من هذين المعبدين طولاني بسيط، وكل واحد منهما محاط بجدران تبلغ سماكتهما /30،2/ متر، ولكل معبد باب واسع يقع في وسط الجدار الشرقي للمعبد.
وفي محور الباب لكل واحد من هذين المعبدين يقوم مذبح معقد البناء، ومزوّد بعدة درجات صعود تنتهي بالمصطبة الواطئة. يرى علماء الآثار أنّ هذين المعبدين، يخصان الربة "عشتار". عُثر داخل هذين المعبدين على رقم مسمارية، ولقى من البرونز مثل تمثال من البرونز لرب غير معروف، وتمثال آخر من البرونز لثور ضخم، ورؤوس سهام، ومجموعة من الخرز البلوري وقطع من العاج، ولحظ العلماء وجود طبقة سميكة من الرماد، ما يشير إلى حدوث حريق هائل دمر المعبدين وزخارفهما، ولم يترك إلاّ النزر اليسير.
إنّ أغلب اللقى والبقايا المعمارية، باستثناء الفترات المتأخرة الرومانية، والبيزنطية، والعربية الإسلامية، تعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد. في حوالي عام /1187/ قبل الميلاد دمرت المدينة بشكل غير معروف، ولم تقم لها قائمة حتى عام /187/ قبل الميلاد، حيث تكونت مدينة تعود للفترات السابقة على الفترة العربية الإسلامية، وهذه المدينة مغيبة أسفل أطلال مدينة "بالس"، التي شيدت في العصر العربي الإسلامي. ويشاهد اليوم من أطلال المدينة العربية "بالس" مأذنة مسجد "بالس"، وهي واحدة من أجمل ثلاث مآذن تعود لفترة القرن الثاني عشر ميلادي، الأولى في مسجد "المنصور" بـ"الرقة"، والثانية فوق أطلال مسجد قلعة "جعبر"، والثالثة مأذنة "بالس". تقوم حالياً بعثة سورية، ألمانية، أمريكية، أوروبية مشتركة في التنقيب في موقع "إيمار" مسكنة.