تحتار بما تصفه: أديب، شاعر، مؤرخ، خطاط، باحث في التراث العربي والإسلامي، أستاذ في كلية الفنون الجميلة بجامعة "دمشق"، ومعهد الفنون التطبيقية، ومعهد الآثار في جامعة "دمشق"، إعلامي ومخرج ومؤلف للعديد من الأفلام الوثائقية؟
إنه الفنان "أحمد المفتي" الذي درس الخط والفن على يد خطاط بلاد الشام "بدوي الديراني"، وطوّره على يد "حامد الآمدي" في اسطنبول، ويعتبره الكثيرون آخر الخطاطين العظماء.
eSyria التقى الفنان "المفتي" بمرسمه في "دمشق" محاولاً إلقاء الضوء على فن "الخط العربي" الجانب الأبرز في مسيرته الفنية، فكان الحوار التالي:
** يُعتبر الخط العربي قمة الفنون التشكيلية، فالخط العربي أو الفن الإسلامي ككل فن تجريدي، والتجريد دائماً وأبداً أرقى عمليات الفكر... يقول "بيكاسو" رائد الفن التجريدي والتكعيبي: "إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن الرسم سبقني إليها الخط العربي منذ أمد بعيد"، ما يدل على أن الخط العربي الذي ولد في أحضان القرآن الكريم هو من الفنون الراقية التي مرت عبر الحضارات القديمة.
وكما نعرف جميعاً كانت حياة الإنسان في البداية حياة بدائية، فكان يكتب بالقضايا التصويرية أي بما عاشه.. ماذا باع، وماذا اشترى، ولم يستطع أن يسجل عواطفه، ونزعاته وإحساسه الداخلي، وأفكاره إلا عندما ولدت الأبجدية مع الممالك الآرامية المنتشرة في بلاد الشام، وكان في سورية ستة عشر مملكة آرامية، ومن ثم جاء الأنباط ليطوروا الحرف الآرامي، وليتطور من ثم الحرف النبطي بالذات، الذي انتقل إلى الجزيرة العربية من خلال رحلة الصيف والشتاء، واستطاع العرب أن يولدوا هذا الحرف العربي الجميل من الألف إلى الياء من خلال تأملهم للقمر، ومنه ابتدعوا الحروف العربية من خلال مسيرته خلال الشهر، من ولادته حتى ينتهي كهلال.
ومن هنا كان للحرف والخط العربي كفن مقاييس، حيث خضع لقضية النسبة بخلاف كل الكتابات عند الشعوب الأخرى لأنه مأخوذ من الدائرة ـ القمرـ .
** المشكلة موجودة في القضايا التجارية بمعنى أننا اليوم نقتني لوحة فنية لفنان كبير لكن لا يمكن أن نقتني لوحة شغلت على الكمبيوتر، صحيح أن الحاسوب استطاع أن ينتج لوحة لكن ليس لها أي قيمة فنية.
* لماذا؟
** لأن الحرف العربي كحرف له قيم وله نسبة كما قلت، و"إخوان الصفا" هم من أشاروا إليها في دراساتهم ووضعوها ولم يضعها "ليوناردو دافنشي"، وهذه النسبة نجدها بالحرف العربي دون غيره من الحروف، فلو أخذت حرف الألف نجد أن طوله سبع نقاط بالنسبة للقلم الذي يكتبه بينما حرف الباء هو حرف الألف المسطح ضمن الدائرة "القمر"، ولو استطعت أن تلقي حرف الألف على حرف الباء لوجدت أن حرف الباء كما قلت هو بمقدار حرف الألف، هذه القضايا بالتكوين والنسبة والجمالية لم يفلح الحاسوب أو الكمبيوتر في بنائها وتشكيلها في اللوحات.
** عندما أرادت شركات الكمبيوتر صياغة الحروف العربية، استخدمت فنانين من الدرجة الثالثة والرابعة وصاغت هذه الحروف، التي لا تعبر عن القيم الجمالية، فالحاسوب عبارة عن آلة تعطيه شيئاً جميلاً فيعطيك شيئاً جميلاً، ولنتذكر أن حروف الطباعة في فترة الخمسينيات كانت بالخط النسخي الجميل جداً، لأن من صاغها وصنعها فنانون على درجة عالية من الموهبة والتقنية.
ونتذكر هنا كتب "دار المعارف" أو "الدار المصرية"، التي كنا وما زلنا ونحن نقرأ نشعر بقيم جمالية عليا، وهذا الشيء افتقدناه بالوقت الحاضر في كتبنا.
** لابد للجهات المعنية أن تتخذ قراراً لكي تأخذ الحرف الجميل دون السيئ، بمعنى أن تختار فنانين قادرين على وضع برنامج للحاسوب يكون قادراً على إعطاء الجمالية للحرف العربي الموجودة فيه أصلاً، ولا غرابة في ذلك فقد نجح الإيرانيون في ذلك باعتبارهم يكتبون بالحرف العربي ووضعوا للكمبيوتر حروفاً خاصة له، ونحن أخذناها منهم في برنامج اسمه "كالك" ففيه صور وقيم جديدة وجميلة، إلا أنها لا تمثل أكثر من شكل أو شكلين من الأشكال العديدة التي يحملها الحرف العربي.
** عندما كنت طفلاً صغيراً تعلمت عند "بدوي الديراني" أعظم خطاط في بلاد الشام، ودرست على يديه، ومنذ مطلع ستينيات القرن الماضي كنت أشعر بقيم جمالية ساحرة وأنا أنظر إلى اللوحات المكتوبة على واجهات المحلات في سوق الحميدية، والتي كتبها في معظمها "الديراني"، ولا أبالغ إن قلت إنني كنت كلما فتحت كتابي المدرسي، وتصفحت أي صفحة فيه أو العنوان الرئيس لأي نص كنت أشعر بالقيمة الجمالية للخط الذي كتبت فيه الكلمات، هكذا بدأ الحس الجمالي والحس الذوقي ينمو عندي.
ويتابع "المفتي" وكأي فنان بالفطرة كنت مندفعاً جداً إلى الرسم، ولكن في تلك الفترة كان والدي يعتقد أن الرسم حرام، فأراد أن يحول موهبتي ويصرفني عن الرسم إلى شيء مفيد وتعلم الخط فكان أن تدربت على يد الخطاط "بدوي الديراني"، وبدأت أتقلب في هذا الميدان، وسافرت إلى "تركيا" و"مصر" لأكتسب خفايا هذا الفن والخبرة ممن التقيتهم من عمالقته.
** قديماً كان هناك أساتذة للخط للصفوف الأولى في المدرسة، أما اليوم فلم يعد هذا التقليد موجوداً ما يعني أن الطفل أو الطالب الذي يذهب للمدرسة، لن يتذوق أي جمالية للخط العربي ما دام الأستاذ يكتب بخط رديء على اللوح.
وأجزم إن كنا نريد الحفاظ على تراثنا وهويتنا وثقافتنا وقوميتنا فلا بد لنا من الحفاظ على خطنا العربي، فالصين مثلاً تعتز بحرفها على الرغم من أنه بلا أبجدية، وعبارة عن أشكال لكلمات صورية، وأذكر أن السيدة الدكتورة "نجاح العطار" نائب رئيس الجمهورية عندما ذهبت للصين وكانت وزيرة للثقافة آنذاك، قدمت للصينيين لوحة بالخط العربي، وقالت: "إذا كنتم تمتلكون حرفاً جميلاً فلدينا حرف أجمل من حرفكم".
أشعر الآن أن هناك حركة فنية لا بأس بها بدأت تعود إلى الصحوة في بلادنا، والدليل على ذلك أن أكثر الفائزين في المسابقات التي تقام من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي في منظمة "أرسيكا" في "اسطنبول" هم من السوريين.
ولذلك أتمنى وأرجو من وزارة التربية أن تعيد للمنهاج الدراسي القديم أسلوبه، ولاسيما مع وجود معهد للفنون التطبيقية يدرس الخط العربي والزخرفة، ويتخرج منه سنوياً العشرات ممن يملكون الكفاءات والخبرة الكافية لتعليم هذا الفن الجميل لأطفالنا في المدارس إذا ما وفرت لهم فرص العمل كما كان قديماً.
كما أن الإعلام ولا سيما المرئي منه يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية، فينتبه إلى القيم الجمالية في شارات البرامج، انظر مثلاً إلى شعار قناة "الجزيرة" كم هو جميل حتى إن الكثيرين ظنوا أنه نوع من الخط العربي، والسبب ببساطة جمالية الخط المكتوب به وهو الخط الديواني.
** القيم الجمالية الموجودة بالخط العربي مرت عبر زمن يصل إلى أكثر من 1400 سنة ووصل إلى ما وصل إليه من خطوط عديدة الرقعي، الديواني، الديواني الجلي، السياقت، التعليق، السنبلي، والتي تطورت تطوراً هائلاً من خلال التلاقح الفكري مع الشعوب الأخرى، كما أن الفنون تتولد من قضايا كثيرة أخرى، فالدولة مثلاً لم يكن فيها ديوان، وعندما نشأ كان لا بد من صناعة خط لهذا الديوان، وعندما أراد "بيازيد" أن يسخر من "تيمورلنك" سجل له "الطغراء" وكان "خط الطغراء"، هذه الحوادث، وهذا الواقع الذي تولد منه هذا الفن، بالإضافة إلى ما يحمله الحرف من قيم نسبية جمالية رائعة، جعل الخط العربي من أهم الفنون التشكيلية التجريدية بل يقف على سدة الفنون بكاملها.