«سجلت منطقة "تل المريبط" على "الفرات" أول استيطان بشري على وجه الأرض، وذلك منذ عشرة آلاف سنة خلت، وكان أول بيت شيد في "المريبط"، يؤكد حقيقة الاستقرار البشري على "الفرات" الأوسط، وهو يعني اللبنة الأولى للتأسيس الحضاري الذي استلهم أسه الرئيس من مادة الطين...

ومنه بدأت ملامح حضارية جديدة تتشكل، لذلك يعتبر اكتشاف الفخار في "تل المريبط"، من الأمور التي أطلق عليها العلماء بالثورة الانقلابية في حياة السكان، وذلك لما لهذه المادة من أهمية بالقياس إلى التدبير المنزلي والعمل المطبخي، حيث إنّ العجينة الفخارية مادة مقاومة للحرارة من جهة، وهي تمنع تسرب السوائل من جهة أخرى، وحسب الترتيب الزمني فالآنية الفخارية تاريخياً سبقت نظيرتها المصنوعة من المعدن في طبخ الطعام والمواد السائلة».

كان الإنسان القديم في حالة تعامل مستمر مع الطين وبشكل يومي، ومن هنا نستطيع القول إنَّ الآنية الفخارية هي حصيلة تعامل الإنسان مع مادة الطين واكتشافه للخصائص اللدنة لهذه المادة، ومن جهة أخرى معرفة ومهارة الإنسان في استخدامه للنار مكنته من معرفة حرق الطين حرقاً جيداً، كي يكتسب صلابة وقوة ضد الكسر، وتحمل للحرارة أثناء عملية طبخ الطعام، وفي هذا الإطار يقول عالم الآثار "جاك كوفان" عن القرى الزراعية الأولى في سورية وفلسطين، في كتابه "الوحدة الحضارية في بلاد الشام" ط، دمشق، /1984/م، ص /130/: ..وكان إنسان وادي حوض الفرات رائداً في إنماء معارفه، ويتجلى ذلك في استعمال الطين في العمارة والبناء

هذا ما ذكره لموقع eRaqqa الباحث الآثاري "محمد العزو" في معرض حديثه عن الملامح الأولى لحضارة الطين، وصناعة الفخار التي شكلت انقلاباً في حياة السكان.

من فخار تل أسود

ويتابع "العزو" في السياق ذاته قائلاً: «كان الإنسان القديم في حالة تعامل مستمر مع الطين وبشكل يومي، ومن هنا نستطيع القول إنَّ الآنية الفخارية هي حصيلة تعامل الإنسان مع مادة الطين واكتشافه للخصائص اللدنة لهذه المادة، ومن جهة أخرى معرفة ومهارة الإنسان في استخدامه للنار مكنته من معرفة حرق الطين حرقاً جيداً، كي يكتسب صلابة وقوة ضد الكسر، وتحمل للحرارة أثناء عملية طبخ الطعام، وفي هذا الإطار يقول عالم الآثار "جاك كوفان" عن القرى الزراعية الأولى في سورية وفلسطين، في كتابه "الوحدة الحضارية في بلاد الشام" ط، دمشق، /1984/م، ص /130/: ..وكان إنسان وادي حوض الفرات رائداً في إنماء معارفه، ويتجلى ذلك في استعمال الطين في العمارة والبناء».

وحول البدايات الأولى في صناعة الفخار، يقول "العزو": «التجربة العفوية علّمت إنسان "المريبط" في البداية كيف يتحول الطين المشوي إلى فخار قاس، فهو في البداية لم يطلِ جدر وأرضيات المسكن بالطين فحسب، بل طلس أيضاً جدران موقد النار المستديرة، وذلك منذ فترة السوية الثانية في "المريبط"، كانت هذه الحفرة المستديرة والمطلية بمادة الطين هي الموقد الذي يطبخ فيه إنسان "المريبط" طعامه فوق طبقة من الحصى النهرية، وكان المنقبون في "المريبط" قد عثروا على شواهد مثل العظام المحروقة التي غالباً ما وجدت مبعثرة حول حفرة الموقد.

الباحث محمد العزو

وعبر الاستخدام المتكرر لهذه الحفرة المستديرة في طبخ الطعام، تشكلت طبقة طين قاسية أو "فخار قاس"، ما لفت انتباه الإنسان إلى ذلك، حيث عثر على دليل في السوية الثالثة في "المريبط"، يؤكد انتقال الطبخ العفوي للطين إلى طبخ مقصود، حيث تشكلت أولى الأواني المصنوعة من مادة الطين».

وعن أولى المصنوعات الطينية، ومما تتألف تحدث "العزو" قائلاً: «كانت أولى المصنوعات الطينية تتألف، من الدمى التي تمثل الربة الأم أو "آلهة الموقد"، التي صنعت من الطينة الناضجة، أيْ إنها تعرضت لدرجة حرارة عالية، ومن الأواني الأخرى التي تعود إلى السوية الثانية فناجين صغيرة الحجم، بعضها مصنوع من الطينة الناضجة، وبعضها الآخر مصنوع بطريقة غير متقنة، ومع ذلك فهذه النماذج تعتبر الشواهد الأولى على الصناعة الفعلية للأدوات الفخارية في عام /8000/ قبل الميلاد، وقد عثر المنقبون على مجموعة من الفناجين في تل "المريبط"، ورغم أنها جيدة الصنع ونادرة الوجود، إلاَّ أنها لم تكن قد لعبت دوراً فعالاً في حياة المطبخ آنذاك، وهذا يشير إلى أنَّ صنعها لم يكن استجابة لحاجات التدبير المنزلي، بقدر ما هو ابتكار عرضي، لكنها محاولة طيبة تعبر عن حاجة ضرورية عرفها إنسان "المريبط" في السياق الحضاري».

جرة فخارية

وحول فنون صناعة الفخار يتابع "العزو" حديثه قائلاً: «بعد هذا التاريخ بعدّة قرون ظل استعمال الطين المشوي، مقتصراً على صنع الدمى النسائية، وفي بداية الألف السابع قبل الميلاد، نجد شواهد أولى على الطين المشوي في "تل أسود" على "البليخ"، ومع ذلك فإنَّ الأواني المصنوعة من الطين المشوي "الأواني الفخارية"، لم يتم استعمالها إلاَّ بعد النصف الثاني من الألف السابع قبل الميلاد، إذ أصبح استعمالها شائعاً "الأدوات المنزلية" في بعض المواقع مثل "تل أسود"، وهذا يعني منطقة "الفرات" ثانية، وتستمر مسيرة "فن الحرق" نحو مكانة متطورة في أكثر من مجال واحد، وفي وقت زمني واحد، إذ إننا نجد أنَّ مادة مثل مادة الجص، التي استخدمها الإنسان في طلس جدر وأرضيات المساكن، قد أصبحت تستخدم في صنع الأواني المطبخية مباشرة، في كل من سورية وفلسطين.

يقول المثل الشائع "الحاجة أم الاختراع" ولذلك نجد أنَّ إنسان "المريبط" على "الفرات"، قد ابتكر الكثير من المصنوعات المتأقلمة، نتيجة لتلبية حاجاته الأساسية، وليس استجابة لحاجات دينية أو تزيينية أكثر منها استعمالية، فالإنسان كان يريد أنْ يأكل ويستحم لكي يستطيع أنْ يفكر، عندها يكون لديه متسع من الوقت، والقدرة على ابتكار أشياء تلبي الحاجات الدينية وغيرها. ثم نجد أنَّ كافة الابتكارات الهامة التي تحدثنا عنها سابقاً، كانت حصيلة قدرة الإنسان في السيطرة على مواد جديدة، ونتيجة قدرته على تطويع هذه المادة بطريقة جديدة كلياً.. وإلى جانب استعمال الإنسان المنتجات الأولى لهذه الابتكارات لسد حاجاته البيولوجية، فقد استعملها أيضاً في مجالات روحية، لأنَّ هذه الابتكارات مرَّت في البداية بلحظة بيولوجية "حياتية"، ثم بلحظة "رمزية"، لكن هذه اللحظة الرمزية لم تكن بالنسبة للإنسان أكثر ضرورة من ضرورة الحاجة الحياتية التي كانت هي الدافع الرئيس للابتكار نفسه. لأنّ الإنسان كان يسعى للحصول على الضروريات والكماليات تدريجياً».