استطاع الخبز بين مختلف أنواع الأطعمة أن يحافظ على مكانة مميزة، كان لهذه المكانة في منطقتنا بعدان الأول اقتصادي لكون الخبز هو المكون الأساسي على أي مائدة طعام، والثاني يتعلق في منطقة الفرات بقداسته التي تعود بلا شك إلى كونه - في ميثيولوجيا الحضارات المتعاقبة في المنطقة- كان جسد الإله "دوموزي" السومري أو "تموز" البابلي الذي يموت في موسم الحصاد ويبعث في الخصب من كل عام، مما جعل من ارتباطه بثقافة النذور أمراً مألوفاً وهذا ما نجده في "خبز العباس" الذي ارتبط صنعه وتوزيعه بتحقيق نذر ما.
للتعرف عليه أكثر التقينا بالسيدة "سعاد الصالح" التي تحدثت عنه بالقول: «خبز العباس هو خبز رقيق يخبز على الصاج ويدهن بالدبس الحلو والسمن أو بالدبس وحده وأحياناً بالعسل ويرتبط بتحقيق النذور وقد كان منتشراً بكثرة في" دير الزور" فالمرأة التي تريد نجاح ابنها أو زواج ابنتها أو شفاء زوجها تنذر له توزيع "خبز العباس"، فإن تحقق ما أرادت تخبزه وتعمل على توزيعه على الجيران والأقارب، وفي بعض الحالات يتم توزيعه قبل تحقيق المراد مع مطالبة الأشخاص الذين يوزع عليهم بالدعاء، وهذه الظاهرة موجودة في العراق أيضاً غير أن الخبز هناك بدل دهنه "بالدبس الحلو" تلف به أنواع من الخضراوات مثل البقدونس والرشاد أما إن كان الوضع المادي ميسوراً فيضاف الجبن إلى الخضراوات».
أما فيما يتعلق بسبب التسمية فقد تحدث عنها الأستاذ "عمر صليبي" بقوله: «إذ يعزو بعضهم ذكر "العباس" إلى "العباس" عم النبي "محمد" صلى الله عليه وسلم فإن بعضهم الآخر يعزوه إلى "عباس بن عبد الله بن علي بن زين العابدين" الذي ينتهي نسبه إلى الإمام "علي بن أبي طالب" كرم الله وجهه والمدفون في العراق، وهؤلاء الصحابة الأجلاء جميعهم كانوا من الكرماء، والمنطلق الفكري في هذا هو مجاراتهم في الكرم أو السير على خطاهم، ولكنه في البعد الاجتماعي كان حلاً للفقراء الذين يتوجب على الجميع مساعدتهم، إذ إن الشيخ "العباس" كان رجلاً كريماً كما يذكر العراقيون في تاريخهم، وأنه كان قد اعتاد تقديم الخبز المدهون بالدبس، والخبز والدبس مع السمن أو دونه، كان يؤمن لبعضهم سد الرمق من جهة كما حثهم للناس على الزهد والكرم ونشر العادات الإسلامية الخيرة التي ارتبطت بها، وحل المشكلات الاجتماعية التي يتعرض لها الناس وقد تؤدي بهم إلى الانحراف وخاصة فيما يتعلق بمسألة الجوع، ومع انتشار الجهل بفعل العثمانيين وعمليات الخلط الفكري بين ما هو تاريخي وما هو إسلامي ظلت هذه العادة متبعة في المنطقة، ومنها انتشرت في كل بلاد الرافدين وبلاد الشام ولكنها أخذت صيغة النذور وارتبطت بها في العصر العثماني بفعل كثرة الضائقات المعيشية آنئذ».
أما عن طريقة إعداد خبز "الصاج" الذي يدهن كما أسلفنا بالدبس مشكلاً "خبز العباس" فقد تحدث عنها السيد "عبد القادر عياش" في كتابه "من التراث الشعبي الفراتي" بقوله: «الصاج إناء من الحديد مقعر بقطر 50-75 سم يستعملونه في جميع أنحاء الفرات وفي كل الأوقات، في "دير الزور" يركَب في وسط الكانون على منصب حديدي ذي ثلاثة قوائم يسمى "ركَابة" تستعمل أيضاً لوضع قدر الطبخ عليها وقد يركب على غير الكانون.
في الريف يوضع "الصاج" على أحجار تسمى المناصب ويسميها البدو "هوادي" ويكون "الصاج" محدباً من الأعلى، توقد النار تحته، يقطع العجين إلى قطع تزن الواحدة منها حوالي 200 غرام، ثم ترق باليدين لتستدير ثم توضع على "الصاج" حتى تحمر قليلاً ثم ترفع وتقلب وتعاد إلى "الصاج" إلى أن تنضج فترفع باليد، أو ترق قطع العجين بعصا طويلة ورفيعة فوق طاولة خشبية مستديرة أو مستطيلة تسمى "دزكة" ترش أرضها بالطحين حتى لا يلتصق العجين بها أثناء الرق، ترتفع عن الأرض نحو 25 سم وتعمل امرأتان معاً، واحدة تقطع العجين وترقه بالعصا والثانية تتولى وضعه على "الصاج"، ويسمى خبزه "لركاك" أي الرقاق وهو أرق من خبز التنور».
المراجع :
عمر صليبي ، معالم وأعلام ونضالات في الجزيرة ووادي الفرات في العصر العثماني 1516- 1918، مطبعة دار العلم، ص 165 -166.
عبد القادر عياش، من التراث الشعبي الفراتي، الجزء الثالث، منشورات وزارة الثقافة، ص 70-71.