من المواقع المهمة في تاريخ الديانة المسيحية مدينة "بيت صيدا" التي يتكرر ذكرها كثيراً في العهد الجديد وبأناجيله الأربعة، وكانت على الدوام هدفاً ومقصداً للحجاج وعلماء الآثار والباحثين الأكاديميِين على مر العصور. إنها "بيت صيدا" التي كان موقعها محل خلاف وجدل بين الباحثين وعلماء الآثار نظراً لأهميتها كمدينة شهدت العديد من عجائب السيد "المسيح".
يقول الباحث "تيسير خلف" لموقع eQunaytra: «إن الموقع الحقيقي لمدينة "بيت صيدا" كان محل خلاف في الألفية الأخيرة، ومادة للجدل لدى الرحالة وعلماء الآثار الكتابيين في القرن التاسع عشر، وقد تم توثيق أكثر من 20 محاولة لتحديد موقع المدينة من قبل حجاج ورجال دين مسيحيين قبل عام 1800. وفي السنوات الأخيرة توصل الأركيولوجيون مستفيدين من المعطيات العلمية الحديثة إلى إجماع بشأنها، وتم تحديد موقع التل (تل الأعور أو تل عامر) في سهل البطيحة الجولاني كمكان وحيد ونهائي لهذه المدينة المفقودة».
يتنافى مع القوانين الدولية لأن موقع "بيت صيدا" يقع في أراض محتلة والقانون الدولي يمنع استغلال المناطق المحتلة بأي شكل من الأشكال، خصوصاً أن الآثار التي اكتشفت في بيت صيدا نقلت من مواقعها الأصلية لتعرض في المتاحف الغربية. وهو ما يستحق إدانة دولية وموقفاً حازماً من قبل منظمة اليونسكو
وعن الموقـــــع يتابع الأستاذ "تيسير" قائلاً: «تمتد مدينة "بيت صيدا" على مساحة 20 هكتارا، ويسود الآن اعتقاد في الأوساط الأكاديمية بأن المدينة التي عرفت بهذا الاسم منذ أكثر من خمسة عشر قرناً قبل الميلاد كانت عاصمة مملكةَ آرامية يرد ذكرها للمرة الأولى في رسائل تل العمارنة بين الفرعونين، "أمنحوتب" الرابع ووالده "أمينوفيس" الثالث خلال الأعوام (1390- 1352 قبل الميلاد)، وحُكَّام الولايات الصغيرة في شرق المتوسط، والتي كانت تحت هيمنة المصريين.
بلغت "بيت صيدا" شأواً بارزاً في التاريخ المسيحي عبر ارتباطها بالعديد من الأحداث الرئيسية في حياة السيد "المسيح" وحوارييه. وقد أشار العهد الجديد إلى أن هذه المدينة التي يعني اسمها مكان (صيد السمك) تقع إلى الشرق من نهر الأردن أي في الجولان، حيث التقى فيها "المسيح" أتباعه الأوائل "فيليب"، و"بطرس" و"أندراوس" ابنا "يونا"، و"يوحنا" و"يعقوب" ابنا صياد السمك "زبدي"، وحيث قام بمعجزة إطعام خمسة آلاف من خمسة أرغفة وسمكتين، وكذلك معجزة علاج الرجل الأعمى، ومعجزة المشي على الماء».
أما المحطات التاريخية "لبيت صيدا" فيؤكد الباحث "خلف" أنه «لا يتضح لنا من خلال الأناجيل إن كانت "بيت صيدا" مدينة أو قرية عندما زارها السيد "المسيح"، "فمتى" و"لوقا" يصورانها كمدينة، بينما "مرقص" يعتبرها قرية، وبالمقارنة مع (قيصرية فيلبي)، والتي هي "بانياس" الجولان، فإن فيها الكثير من معايير المدن حيث تسيطر على أراض شاسعة، أما الدليل الذي يمكن أن يدعم كون "بيت صيدا" مدينة في عصر السيد "المسيح" وجود تراتب اجتماعي، فبالإضافة إلى تعامل السيد "المسيح" مع المستضعفين والمرضى ومؤازرته لهم في معظم وقته نجد أنه تعامل أيضاً مع شخص ثري هو "زبدي" الذي كان قادراً على استخدام الأجراء. (مرقص1: 20) هذا التمايز الطبقي يؤشر إلى تركيبة مدينة وليس قرية».
ويضيف الباحث: «موقع المدينة الصحيح عرف من قبل الحجاج المسيحيين القدماء حتى فترة حروب الفرنجة، ففي عام 530 ميلادي حدد الإمبراطور "تيودوسيوس" موقع "بيت صيدا" إلى الشرق من "كفر ناحوم" بستة أميال وعن منابع الأردن بنحو خمسين ميلاً، أما رئيس أساقفة "بافاريا إيخستات" الأول فقد حج إلى المدينة المشهورة أيضاً في عام 725 ميلادي [107 هجري] في عهد الخليفة الأموي "هشام بن عبد الملك"، ووصفها بأنها مدينة "بطرس" و"أندراوس"، حيث شاهد كنيسة في مكان بيتهم، وقد غاب أي ذكر للمدينة بعد ذلك والمؤكد أن زلزال عام 749 ميلادي [132 هجري] قد أتى على ما تبقى من هذه المدينة، مثلما فعل في الكثير من المدن القديمة في الجولان، ومن غريب الاتفاقات أن هذا الزلزال وقع في العام نفسه الذي سقطت فيه الخلافة الأموية بيد العباسيين، وفي المصادر العربية نلمح إشارة مهمة إلى المدينة التي خضعت للغساسنة شأنها شأن بقية سورية الجنوبية، وهو ما جعل الشعراء يركزون على المواضع الجولانية في رثاء ملوك الغساسنة».
تشير الأبحاث الآثارية إلى وجود بوابة للمدينة تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وهي من أفضل البوابات التي مازالت محتفظة بتفاصيلها في عموم المنطقة وعن وصف الموقع يتحدث "خلف" قائلاً: «طبقا للمسح الراداري فإن حائط المدينة الذي مازال يحتفظ بارتفاع يبلغ أكثر من متر ونصف المتر يعود إلى فترة أقدم من هذا التاريخ، وعليه فإن المدينة بنيت على مرحلتين وفي جزأين.
جزء مرتفع وجزء منخفض، الجزء المرتفع يضم الأبنية العامة والتحصينات، والجزء الأوطأ يضم الحيّ السكني، كتلة بوابة المدينة تظهر وجود بابين لكل منهما برجان، باب للمدخل الخارجي وآخر للداخلي، يفصل بينهما ميدان معبّد كبير، وتظهر الأرض المرصوفة آثار عجلات العربات التي يبدو أنها كانت منتشرة بكثرة، وعثر على أربع غرف ملأى بالأنقاض تعود إلى بناء عام للمدينة من الفترة التي سبقت الهجوم الآشوري، والغريب أن البوابة امتصت صدمة الهجوم الآشوري وكذلك صدمة زلزال كبير أصابها، من الواضح أن أحجار البازلت كانت مجصصة باللون الأبيض وهناك مقعد منخفض لشيوخ أو حكام المدينة الذين يستمعون إلى شكاوى العامة عبر البوّابة، وحول الكوة عثر على بقايا قطع بازلت للنصب الذي يمثل حدد إله المدينة، حيث أعيد تجميعه من مسافات متباعدة، ويمثل ثوراً قوي المظهر بقرونه، متزنراً بسيف قصير. وهو نصب فريد من نوعه في عموم منطقة شرق المتوسط. وقد عثر على نسختين من هذا التمثال، ولكن بحجم أصغر في تل الأشعري جنوب الجولان الشرقي، وفي محافظة "السويداء"».
ويضيف: «داخل القصر عثر على تمثال صغير للإله المصري "باتيكوس"، إله الفنانين والحرفيين. إنّ التمثال الصغير مصنوع بشكل رفيع جداً، ويصوّر قزما بقلادة مخرّزة متقنة وسكينين أو خنجرين. من المحتمل أنه يقف على تمساح، كما في النسخ الأخرى منه، لكن قدمه مكسورة بشكل متعمد لفصل التمساح عنه، يحتفظ هذا التمثال الصغير بآثار الخزف التركوازي تحت رقبته ويده اليمنى.
وعثر في القصر أيضاً على نقش فخاري، من القرن الثامن قبل الميلاد، لاسم عقبة وهو اسم آرامي "صرف"، كما عثر أيضاً قرب المعبد على تمثال امرأة وثلاث قطع عملة معدنية ربما نقشت أثناء تغيير اسم المدينة من "بيت صيدا" إلى "جولياس"».
وعن الحـــي الهللينـــي يقول: «تم التنقيب في حي يعود إلى الفترة الهيلينية (332-37 قبل الميلاد) وتبين أنه يتضمن عدداً من البيوت الخاصة وفي كل بيت عدد من الغرف التي تحيط بفناء مبلط. وفي شرق الفناء مكان نموذجي كمطبخ وإلى الشمال غرفة طعام.
ويعتقد فريق الآثاريين أن غرف النوم كانت في طابق ثان، أحد البيوت يعود إلى صياد سمك، وجدت فيه أدوات تعبر عن ثقافة متطورة ارتبطت بصناعة صيد السمك مثل شبكة صيد مع ثقالاتها ومراسي وإبر وصنارات صيد. وإحدى الصنارات لم تكن قد ثنيت، ما يشير إلى أنها صنعت في المكان، كما عثر على مفتاح بيت الصياد محتفظاً بشكله العام رغم أنه مصنوع من الحديد، وقد تم إهداء نسخة مصنوعة طبق الأصل من هذا المفتاح للبابا يوحنا بولص الثاني عندما زار الأراضي المقدسة مطلع الألفية الثالثة، وطاف بمروحية فوق موقع "بيت صيدا" لإلقاء نظرة على هذا المكان المقدس، ووجد أيضاً بيتاً يحوي قبواً للتخمير وجرار نبيذ كبيرة وقد دعي هذا المكان "بيت صانع النبيذ". كما عثر أيضاً على مجوهرات وسفن فخمة، وما زال التنقيب جارياً».
ويرى الباحث "تيسير خلف" أن التنقيب غير القانوني الذي تقوم به الجامعات الأمريكية وبعض الجامعات الأوروبية في الموقع «يتنافى مع القوانين الدولية لأن موقع "بيت صيدا" يقع في أراض محتلة والقانون الدولي يمنع استغلال المناطق المحتلة بأي شكل من الأشكال، خصوصاً أن الآثار التي اكتشفت في بيت صيدا نقلت من مواقعها الأصلية لتعرض في المتاحف الغربية. وهو ما يستحق إدانة دولية وموقفاً حازماً من قبل منظمة اليونسكو».