تعود زراعة التبغ في الساحل السوري إلى أكثر من ثلاثة قرون حيث انتقلت زراعته من الغرب عبر أوروبا فتركيا وقد عرف تبغ الساحل السوري عموماً كأحد أجود أنواع التبوغ في العالم بسبب رائحته الطيبة وزراعته في الجبال العالية دون استخدام أية أسمدة كيماوية، كما أن سقايته والعناية به كانت وما زالت تتم على مدار العام، فضلاً عن أنه مصدر رزق هاماً لكثير من الفلاحين.
إلا أن التطور الرئيسي الذي شهدته هذه الزراعة كما يقول الباحث المرحوم "جبرائيل سعادة" كان عام 1744 حين أضرب أهالي الجبال بسبب ضعف الأسعار ولم يبيعوا محصولهم لتجار المدينة ومن ثم علقوا خيطان التبغ في سقوف البيوت ولما جاء الشتاء أخذوا يوقدون النار للتدفئة فالتصق دخانها بالتبغ المعلق ما أدى إلى اسوداد لونه وفي السنة التالية حلت المشاكل وتم بيع المحصول وصدره التجار إلى أوروبا وأميركا، وهناك أحب الناس رائحة هذا التبغ فطلبوا من تجار اللاذقية أن يرسلوا لهم دائماً هذا الصنف من الدخان ومنذ ذلك الوقت راجت سوقه في العالم وهو لليوم يعرف بتبغ اللاذقية فهو مثلاً في اللغة البرتغالية lattaquee tobacoo.
يبقى المشتل مغطى لمدة تتراوح بين الشهر والأربعين يوماً حتى تنمو الشتول الصغيرة وتصبح قادرة على مقاومة البرد والمطر ومن ثم تقلع وتنقل في حزم بعد تغطية جذورها بقطعة خيش مبللة بالماء تمهيداً لزراعتها في الحقول
عن طقوس زراعة التبغ وقطفه وشكه وتخزينه ورعايته كان لموقع eLatakia هذه الجولة على عدة قرى جبلية حيث التقينا عددا من المزارعين في حديث عن شؤون وشجون هذه الزراعة.
المهندس "فايز حسن" مهندس زراعي حدثنا عن بذور التبغ وكيفية زراعته فقال: «في شهري كانون الثاني وشباط يتم أولاً تجهيز المشاتل وهي عبارة عن مساكب مرتفعة حوالي عشرين سنتمتراً عن الأرض منخلة بعناية ومنقاة من البحص الصغير والكبير ومسمدة بالسماد البلدي ثم تروى بالماء لمدة ثلاثة أيام كي ينبت العشب الضار أولاً ومن ثم تزال الأعشاب وتبذر بذور التبغ على امتداد مساحة المشتل بشكل لا تنمو فيه كأجمات بل كشتلات مفردة لتسهيل قلعها، ومن ثم توضع عصي على شكل أقواس طرية من الشنبوط أو الصفصاف على امتداد المشتل وتغطى بالنايلون أو الخيش لمنع المطر من تخريبها».
ويتابع المهندس "حسن" حديثه فيقول: «يبقى المشتل مغطى لمدة تتراوح بين الشهر والأربعين يوماً حتى تنمو الشتول الصغيرة وتصبح قادرة على مقاومة البرد والمطر ومن ثم تقلع وتنقل في حزم بعد تغطية جذورها بقطعة خيش مبللة بالماء تمهيداً لزراعتها في الحقول».
السيد "علي ابراهيم" وهو مزارع شرح عملية زرع الشتول فقال: «زراعة التبغ عملية جماعية أولاً وآخراً فمن دون تجمع العائلة يصعب جداً زراعته، تكون الأرض مفلوحة ومجهزة وتنتقل العائلة إليها في الصباح الباكر مع شتول التبغ التي تعبأ في صناديق أو قفر مصنوعة من أعواد الريحان، يقوم الصغار عادة بما نسميه "فت" الشتول وهذه تعني رمي شتلة تبغ لمن يقوم بغرسها في الأرض بواسطة "شاتول" وهذه أداة لها مقبض من الخشب وذراع معدنية حادة قليلاً نفتح بها شقاً في الأرض على شكل مثلث عميق ونضع الشتلة فيه ثم نضع عليها التراب ليتم سقايتها فوراً من قبل النساء عادة، وهكذا ترى أن توزيع العمل متكامل كل له دوره في هذا العمل من الصغير إلى الكبير، ويبقى "ختيار" البيت معلماً علينا يراقبنا في عملنا ويعطي توجيهاته وملاحظاته منعاً لأي تجاوز أو خطأ».
"شك الدخان" هذه العبارة تستعملها النساء عادة ولكنهن يحولن هذا النشاط المتعب إلى مناسبة اجتماعية تجتمع فيها نساء الحي لمساعدة بعضهن فاليوم عند فلانة وغداً عند غيرها وهكذا في تعاون أهلي يقوم الجميع فيه بمساعدة الجميع حيث يشربون الشاي ويشتغلون في شك الدخان، السيدة "سهلة" زوجة السيد "علي" شرحت لنا هذا الطقس فقالت: «يقطف الدخان عادة في الصباح الباكر بعد طلوع الضو بفترة قليلة حيث تكون الأوراق طرية وسهلة القطف والشك، شك الدخان يتم بواسطة "مسلات" معدنية حادة جداً حيث توضع مجموعة أوراق مع بعضها وتخترقها المسلة المربوطة بخيط من القنب ومن ثم يتم تجميع التبغ في كامل الخيط ويبلغ طول الخيط تقريبا حوالي متر واحد».
وأضافت: «إن ترتيب الأوراق يبدأ بأوراق صغيرة ثم توزع الأوراق الكبيرة على خيطان وحدها كي تباع بسعر "إكسترا" (أعلى من غيرها) أما الصغيرة فتباع بسعر أقل بعد تخمينها من قبل "المراسل". بعد الانتهاء من عمليات الشك التي تأخذ وقتاً حتى انتهاء عمليات القطاف وهذه تستمر تقريباً حوالي الشهرين لنهاية الصيف عادة، تنقل خيطان التبغ لتعلق على سقالات مخصصة توضع عادة في أماكن لا تتعرض كثيراً لضوء الشمس حتى يتم يباسها وتقلب لكي تندى ويتحول لونها إلى الحمرة الفاتحة ويستمر الأمر حتى تشرين حين يتم إنزالها عن السقالات والأسطحة وتوضب في أكياس وبالات مخصصة لذلك مصنوعة من الخيش وترتب بطريقة يسهل فيها نقلها إلى مراكز استلام التبغ في القرى الكبيرة».
كانت مؤسسة التبغ ترسل عادة شخصاً يقوم بتخمين كميات الإنتاج لدى الفلاحين وذلك لكي لا يتم تهريبها، هذا الشخص اشتهر في القرى بلقب "المراسل" وقد وجب أن يكون هذا الشخص خبيراً بالمساحة ويعرف كيفية تقدير كميات المساحات المزروعة تفادياً لتسجيل زيادات في إنتاج الفلاحين فيقعون في المشاكل، لذلك كان المراسل يحظى باحترام وخوف متبادلين فبيده مقاليد الأمور، إلا أن هذا الأمر قد تغير منذ فترة ليست قصيرة حيث يقوم المزارعون اليوم بالتصريح عن الكميات التي يرغبون بتسليمها إلى الدولة.
من أشهر الأنواع التي تزرع في الساحل السوري "أبو ريحة" الذي يصدر إلى مختلف دول العالم و"شك البنت" وهو نوع محلي ذو أوراق صغيرة، و"فرجينينا" وهو نوع أميركي دخل ضمن قائمة الزراعات المحلية ونجح نجاحاً باهراً وهو يتميز بورقه الكبير العريض والنمو الكبير لشتلته حيث يصل طولها لحدود متر ونصف فأكبر.