قد لا يعرف الكثيرون عن عراقة تاريخ الجزيرة أو قِدمه، لكن لغة الأرقام لا تعرف الكذب أو المجاملة، ففي "الحسكة" أينما شحت بناظريك ترى تلالاً قد علا بعضها على بعض، وأقرب ما يكون منك وأنت في المدينة "تل غويران" الأثري، الذي لا يعرف مدى قدمه أقرب الناس إليه.
موقع eHasakeh حاول الاقتراب من هذا المعلم ومعرفته عن كثب، فالتقى الدكتور "عبد المسيح بغدو" مدير الآثار في "الحسكة" حيث قال: «يقع "تل غويران" على الضفة اليمنى لنهر "الخابور"، تحديداً على بعد 300 متر من مركز المدينة وتبلغ أبعاده / 80×60 /مترا، كما يرتفع عن الأرض العذراء 11 متراً، يحد الموقع من جميع الاتجاهات شوارع خدمية منظمة، أول من تعرَّف على التل البعثة الألمانية برئاسة الدكتور "هارتموت كونه" عام 1977، جاء ذلك أثناء قيام البعثة بأعمال المسح الأثري للتلال المنتشرة على جانبي "نهر الخابور"، أكدت البعثة أن التل كان كبير الحجم وواسع الامتداد، إلا أن الطريق القادم من محافظة "دير الزور" اخترقه من المنتصف، حيث اقتطع منه جزءاً كبيراً أدى إلى تقليص حجمه، ومن خلال دراسة الكسر الفخارية المنتشرة على سطح التل، تبين للبعثة أنه يعود إلى كل من العصر "الحجري – البرونزي"».
إن جميع المكتشفات في الموقع تؤكد أنه تم الاستقرار فيه خلال فترة "أوروك الحديثة"، ازدهر خلال النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، بلغ أوج ازدهاره وأصبح مدينة متكاملة خلال فترة الحضارة العربية الإسلامية "الفترة الأيوبية"، كان هذا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي
يتابع "بغدو": «في عام 2003 بدأت البعثة الأثرية السورية أعمال التنقيب برئاسة الدكتور "عبد المسيح بغدو"، ومن خلال أعمال التنقيب المنهجي التي تمت خلال خمسة مواسم، تبين أن العصور التي مر بها الموقع هي "فترة أوروك الحديث، فترة فجر السلالات الباكرة الثالثة، الفترة الأكادية، فترة الحضارة العربية الإسلامية"، وقد تم الكشف في السوية الأقدم العائدة إلى فترة "أوروك الحديث"، المتوضِّعة على الأرض العذراء /المربع B2/، عن أجزاء من غرف مبنية من اللبن عثر بداخلها على لُقى فخارية وبرونزية وعظام حيوانية، توضَّع فوقها مباشرةً السوية العائدة إلى فترة "فجر السلالات الباكرة الثالثة" /المربعات B2 – B3 – X2 – X3/، حيث عثر بداخلها على أبنية من اللبن وحوضاً تم بناؤه من اللبن أيضاً أرضيته وجدرانه مجصصة، وعلى أجزاء من منشأة معمارية مبنية من اللبن على شكل برجين، حيث وصل ارتفاع الجدار الغربي إلى 3.50 أمتار وعرضه إلى 1.20 متر».
يضيف "بغدو": «كما تم التعرف في المربعات /X2 – X3 – X4 – B3 – B4/ ضمن السوية العائدة للفترة "الأكادية"، على جدران وأجزاء من غرفة مبنية من اللبن القاسي، بلغ ارتفاعها 50 سم لها مدخل من الجهة الجنوبية، كما تم العثور على لُقى فخارية داخل حفرة مثل "قواعد، جرار، كأس، طاسة"، أما في السوية العائدة للحضارة الإسلامية فقد تم الكشف عن منشاة معمارية، احتوت على أبنية مبنية من مادة الحجر الكلسي الأبيض، أما الجدران فكانت مبنية من بمادة اللبن والأرضيات مجصصة، يفصل بينها شوارع تتصل ببعضها البعض عبر مداخل احتوت على "أحواض مجصصة، تنانير، إسطبلات، دور للسكن"، وقد تم التعرف على عدة منازل ثلاثة منها في الجهة الشمالية من التل، تألف المنزل الأول والثاني من غرفتين وفسحة عثر في داخل كلٍ منهما على تنور، كما تم الكشف في الغرفة الثانية عن درج يؤدي إلى الطابق العلوي، بلغت مساحة البيت الأول 32 م² في حين بلغت مساحة البيت الثاني 36 م²، المنزل الثالث تألف من ثلاثة غرف إحداهما لها سقف مقنطر قد بلغت مساحة المنزل 59.5 م²، أما اللقى الأثرية التي كُشف عنها في هذه المنشأة فكانت عبارةً عن نقود فضية وأدوات برونزية "أساور، دبابيس، ملاعق"، وأسرجة فخارية مزججة، دمى حيوانية، قوارير زجاجية، طبعات أختام مصنوعة من الحجر البازلتي والطين المشوي عليها نقوش هندسية».
ختم "بغدو": «إن جميع المكتشفات في الموقع تؤكد أنه تم الاستقرار فيه خلال فترة "أوروك الحديثة"، ازدهر خلال النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، بلغ أوج ازدهاره وأصبح مدينة متكاملة خلال فترة الحضارة العربية الإسلامية "الفترة الأيوبية"، كان هذا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي».
الدكتور "أحمد الدريس" مدير الثقافة تحدث عن "حي غويران" من الناحية اللغوية فقال: «من حيث المدلول اللغوي نقول غار الماء غوراً أي غاض في الأرض، في المستوى الثاني الأرض الغور تعني الأرض المنبسطة أو الممتدة، أيضاً يسمى الغور (ما يفصل بين شيئين) "الأخدود"، كما يقال الغور على المنطقة التي تحتوي على تكهفات، وفي حي "غويران" عندما يبني الناس بيوتهم يفاجؤون بوجود الكهوف، وبهذا تكون المنطقة قد أخذت تسميتها من هذا المعنى، في السابق أي في مرحلة الطفولة كنا نسمع أنه من التلال الأثرية».
الصحفي "عبد الله الحمد" قال: «بحكم اطلاعي على بعض الكتابات في هذا المجال قرأت، كانت هذه التلال تستخدم للإخبار عن الأحداث، وفي زمن المملكة الآشورية كانت الإشارة تنتقل من أقصى المملكة إلى أقصاها خلال عشرون دقيقة، كانت هذه الإشارات تحمل دلالات مختلفة بحسب شكلها، بالعموم هذه التلال صناعية أي إنها من صنع الإنسان لكنها عبارة عن سويات أثرية، كان الناس يسكنها خوفاً من الأمطار والفيضانات، حيث كانت تعتبر ملاذاً آماناً للسكان، ويقال إن منطقة الجزيرة تعرضت لحريقين هائلين وعلى فترتين متباعدتين، حيث تم الكشف في "تل موزان" على طبقات من الرماد، وبحسب الدراسات كان الذي احترق في ذلك الوقت هو نباتات السافانا، كما كان الحريق الثاني على أيام "هولاكو"، ويلاحظ للناظر بشكلٍ جلي أن التلال كانت أماكن حياة ودفن في آنٍ معاً، لهذا نراها تنتشر بشكلٍ كبير في منطقة الجزيرة».