تعتبر "كاتدرائية الأربعين شهيداً" في حي "بستان الديوان" من أكبر وأقدم الكنائس في "حمص"، مبنية من الحجر الأسود الذي تشتهر به "حمص"، وهي الكنيسة الرئيسة للروم الأرثوذكس، ويعود تاريخ هذه الكنيسة إلى القرن الرابع الميلادي.
فحسبما يذكر الخوري المرحوم "عيسى أسعد" في كتابه "إنارة الأذهان": «لما انقضى عهد الوثنية في "حمص" تحول هيكل الشمس فيها إلى معبد مسيحي، ثم جددت فيها عدة معابد ما برحت آثارها بادية حتى الآن، ومنها "كاتدرائية الأربعين شهيداً" التي يُظن أن القديسة "هيلانة" والدة الإمبراطور الروماني "قسطنطين" قد بنتها مع ما شادته من الكنائس والأديرة الكثيرة في المنطقة».
لما انقضى عهد الوثنية في "حمص" تحول هيكل الشمس فيها إلى معبد مسيحي، ثم جددت فيها عدة معابد ما برحت آثارها بادية حتى الآن، ومنها "كاتدرائية الأربعين شهيداً" التي يُظن أن القديسة "هيلانة" والدة الإمبراطور الروماني "قسطنطين" قد بنتها مع ما شادته من الكنائس والأديرة الكثيرة في المنطقة
وقد مرت هذه الكاتدرائية بعدة مراحل تعرضت خلالها للهدم وإعادة البناء من جديد، حيث أفادنا الباحث التاريخي المهندس "نهاد سمعان" أن الكاتدرائية في شكلها الحالي شُيّدت على أنقاض الكنيسة العظيمة التي قبلها والتي خرّبت في زلزال عام 1159م كما هو واضح من بعض الأحجار الضخمة الموجودة في مداميكها الأولى.
وأضاف: «إن أقدم ذكر موثق للكنيسة باسمها الحالي يعود إلى عام 1261م، عندما أمر "الظاهر بيبرس" بهدمها نتيجة غضبه على المسيحيين في "حمص" بسبب وشاية كاذبة، وعندما عرف الحقيقة كان قد هدم الجزء الغربي منها، فصفح عنهم وأوقف الهدم. فسارع المسيحيون إلى ترميمها، فسقفوا الجزء الغربي المتهدم بسقف خشبي، وبقيت على هذا الحال حتى عام 1890 عندما ظهر شرخ في سقفها، فهدمت وأُعيد بناؤها، ووُسّعت لتأخذ شكلها الحالي، وقد تم الانتهاء من ترميمها عام 1898 كما هو مدوّن على حامل الأيقونات "الأيقونسطاس" في الكنيسة، وكان ذلك في عهد المثلث الرحمات الميتروبوليت "أثناسيوس عطا الله". وبعد مرور ما يقارب مئة عام على ذلك عام 1994 وفي عهد المثلث الرحمات الميتروبوليت "ألكسي عبد الكريم"، أُعيد ترميمها وتزينها بالأيقونات الجدارية، مع مراعاة الحفاظ على ما تحتويه الكنيسة من تحف قديمة تعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مثل منبر الواعظ والأبواب الخشبية وقطع التباليط القيشاني، وقبل أن تكتمل الأعمال فيها توفي المطران "ألكسي". وفي عهد المطران "جاورجيوس أبو زخم" تم إكمال باقي الأعمال من رسوم جدارية وثريات ومقاعد وتلبيس الجوانب الأربعة للمائدة المقدسة بالنحاس المذهّب والمينا، وهذا العمل تم في معمل الكنيسة الروسية المقدسة».
وحول سبب تسمية الكنيسة بالأربعين شهيداً قال م. "سمعان": «حسب كتاب سير القديسين فقد سميت بكنيسة "الأربعين شهيداً" نسبة إلى الشهداء القديسين الأربعين، الذين كانوا قادة في الفرقة الرومانية المعروفة بالفرقة النارية تحت إمرة الإمبراطور "ليكينيوس" صهر "قسطنطين" الكبير ونظيره في الشرق وذلك عام 320 م، وكانوا في حرب في بلاد أرمينيا على الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية وكان معسكرهم في "سبسطية" أواسط تركيا واسمها الحالي "سيفاس".
وهؤلاء رفضوا الرجوع عن إيمانهم وتقديم الذبائح للأوثان، فعذبهم قائدهم في الفرقة "ليسياس" وحكم عليهم بالموت بوضعهم في بحيرة قريبة من المعسكر تجمد ماؤها من شدة البرد، فنزعوا ثيابهم ورموا بأنفسهم إلى البحيرة دون خوف وقضوا في التاسع من آذار 320، وانتشر إكرامهم في الشرق والغرب وكانت الكنائس تتهادى عظامهم كذخائر ثمينة، وحمص نالها من هذه الذخائر نصيب فبنيت فيها هذه الكنيسة على اسمهم ولا تزال هذه الذخائر محفوظة إلى اليوم».
وعن أهمية هذه الكنيسة بالنسبة للمسيحيين في "حمص" ذكر لنا الأب "أندراوس تامر" خادم كاتدرائية الأربعين شهيداً بالقول: «تحظى هذه الكنيسة ببركة خاصة بوجود أجزاء من رفات القديسين الأربعين شهيداً، يتبارك منها المؤمنون سنوياً في عيد الكاتدرائية، وهي تعتبر الكنيسة الغالية على أبناء الطائفة الأرثوذكسية في "حمص"، فهي تمثل جذورهم وتراثهم وماضيهم، ولقد مارس المؤمنون من أجدادنا فيها طقوسهم الدينية منذ أكثر من ألف عام، وتحتفل أبرشية "حمص" في التاسع من آذار من كل عام بأبهى احتفال بعيد شفعاء الكنيسة والرعية القديسين الأربعين شهيداً، وبهذه المناسبة يصنع بعض أهالي مدينة "حمص" بعض أنواع الحلوى على اسم القديسين الأربعين شهيداً».
وأضاف: «تتفرد "حمص" أنه في كل الكرسي الأنطاكي لا توجد كنيسة على اسم الشهداء الأربعين إلا فيها، تحتفظ الكنيسة بالرفات المقدسة للقديسين الأربعين شهيداً، ويوجد في "حلب" كنيسة على اسم القديسين الأربعين شهيداً تابعة لطائفة الأرمن الأرثوذكس.
يتوسط باحة الكاتدرائية ضريح المطران "أثناسيوس عطا الله" وتمثال له، وتحتوي الكنيسة اليوم على ثلاث أيقونات ثمينة للقديسين الأربعين شهيداً بقياسات 70×107 و77×125 و27×22 إحداها تمثلهم وهم عراة في المياه الباردة وسط البحيرة وصورة السيد المسيح فوقهم.
ويقصد الكنيسة اليوم الآلاف من الزوار العرب والأجانب سنوياً بقصد التبرك من بقايا القديسين الأربعين والاطلاع على جمال الكنيسة والتحف الفنية التي تحتويها».