تعد صناعة الموزاييك اليدوية من المهارات التي أبدعها يد الصانع الدمشقي، وهو فن تطعيم الخشب بالصدَف أو ما يسمى الموزاييك.
وللتعرف أكثر على هذه المهنة الدمشقية العريقة "eDamascus" التقى الباحث التاريخي "أنس حسين"، فيقول: «تعد صناعة الموزاييك الدمشقية من أقدم المهن العريقة التي اشتهرت بها ولا تزال مدينة دمشق، وهو فن تطعيم الخشب بالصدَف أو ما يسمى الموزاييك، هو إدخال مادة الصدف إلى جزيئات من أنواع خشبية مختلفة، حيث ينشر الخشب إلى أعواد صغيرة تشكل في ربطها حزمة من أنواع وألوان مختلفة يتم تقطيعها بشكل شرائح تجمع إلى بعضها ليصاغ منها الشكل المطلوب، وإن تاريخ صناعة الموزاييك يعود إلى أكثر من 700 عام حيث اشتهرت هذه المهنة أيام الأتراك، ويعد بيت نظام ومكتب "عنبر وقصر خالد العظم والسباعي والقوتلي" من أشهر البيوت الدمشقية المزينة بهذه المادة على الإطلاق، كما أصبح الموزاييك الدمشقي كالسفير الذي سبق السياسيين إلى معظم دول العالم، حيث يحتل أثاث الصالون قصر رئيس الجمهورية الفرنسية وقصر رئيس جمهورية المكسيك الموزاييكي الدمشقي مكان الصدارة، فضلاً عن القصور الخليجية التي تملأ بالموزاييك الدمشقي».
إن هذا العالم لم يستطع أن يستغني عن ثمرات العبقرية السورية، فاستورد تحف دمشق العربية ليزين قصوره الفاخرة، حتى أصبحت منتجات الصانع السوري بمثابة السفير الذي ينقل صورة بلده إلى العالم
كما زرنا حي "باب شرقي" في "دمشق القديمة" أحد أهم مناطق السياحية في سورية، وأحد أهم مناطق بيع الموزاييك الدمشقي حيث ينتشر بين طياته المئات من ورش والمحلات التي تصنع وتبيع الموزاييك، والتقينا الحرفي "ايلي يوسف قسيس"، الذي تحدث عن هذه الصناعة العريقة، قائلاً: «مهنة الموزاييك هي عبارة عن خشب ملون يتم تجميعه بأشكال ورسوم هندسية تتداخل مع بعضها لتعطي لوحة فسيفسائية جميلة، تعد هذه مهنة من الصناعات الدمشقية القديمة التي مازالت مستمرة حتى يومنا هذا، لكنها شهدت تطورا كبيرا في النصف الثاني من القرن الماضي تمثل باستخدام أنواع مختلفة من الخشب، إضافة إلى دخول الصدف إليها ما أضفى عليها جمالية ورونقاً مختلفاً، ويعود الفضل في اختراع الموزاييك الخشب إلى الحرفي الدمشقي "جرجي بيطار" حيث قام بتقديم قطعة من الموزاييك عبارة عن غرفة جلوس في غاية الروعة إلى البلاط العثماني، فنال عليها وساماً من السلطان وامتيازاً لتعليم الحرفة، كما وصل كثير من إبداعات هذا الحرفي الدمشقي إلى معظم دول العالم، وباع في معارض عالمية وبأسعار خيالية».
وحول آلية العمل يقول "قسيس": «إن طريقة العمل تحتاج إلى مهارة وتعتمد على الرسمة الأولى وهي المهنة صعبة ويتم العمل وفق الميول والأشكال الهندسية في الرسم، ومن أهم أنواع الخشب المستخدمة خشب الجوز لأنه يستخدم في الهيكل وفي التطعيم أيضاً، ويتم الحصول عليه من الغوطة لأنه من أحسن الأنواع، كما يستخدم خشب الليمون والزيتون والكينا والمشمش البلدي من أجل القشر وخشب الورد المستورد والزان الذي يستخدم في الهيكل وليس في التطعيم، والتطعيم هو إلباس القطعة بالمقامات البصرية والزخارف الهندسية، فبعد تصميم الهيكل نلصق التطعيم على الخشب، ومن ثم نفرغ الصدف الأبيض وننزل كل صدفة بهيئتها التي اتخذتها بعد البرد في المكان الذي فرغ، وذلك بعد أن ينغمس أسفلها بالغراء، وبعد ذلك تأتي عملية التنعيم وتجهيز القطعة خصوصاً إذا كانت بحاجة إلى مفصلات وإكسسوارات فتذهب إلى ورشة جديدة وتخضع إلى البولشة فتلمع وتصقل وتصبح جاهزة بالتأسيس والتلميع.
وقد ورثتُ هذه المهنة عن والدي "يوسف قسيس" منذ 30 عاماً، والآن يعمل في المهنة العريقة جميع أبناء عائلتي، وأصبح للعائلة أكثر من 150 عاماً في هذه المهنة الجميلة، وأتمنى أن يحافظ أولادي على هذه المهنة من الزوال ويعملوا على تطويرها حفاظاً على هذا الأرث الدمشقي العريق، كما أنني أجزم زوال هذه المهنة لأنها تمثل ملح الحياة لأبناء دمشق».
ويؤكد "قسيس": «إن الاعتماد الأساسي في هذه المهنة على السياحة، خاصة المغتربين منهم، لأنهم يقتنون هذه المنتجات للتباهي بها أمام البلدان التي يقتنونها، لافتاً إلى أن الأوروبيين يحبون قطع الموزاييك الصغيرة لسهولة حملها معهم إلى بلدانهم، ولا يترددون في التعبير عن إعجابهم بهذه المهنة الرائعة، والخليجيون يحبون اقتناء الأثاث والفرش المنزلي، ومعظم القصور الخليجية والملكية منها يزينها الموزاييك الدمشقي، وأتمنى أن تزداد السياحة كي تبقى هذه المهنة مزدهرة ورائجة، مع العلم أنها في تطور مستمر من حيث تنوع الأشكال الهندسية والرسوم، التي تجمع التراث مع الجديد المبتكر».
يواصل "قسيس": «إن هذا العالم لم يستطع أن يستغني عن ثمرات العبقرية السورية، فاستورد تحف دمشق العربية ليزين قصوره الفاخرة، حتى أصبحت منتجات الصانع السوري بمثابة السفير الذي ينقل صورة بلده إلى العالم».
وأشار "قسيس" إلى أن «أسعار هذه المصنوعات ليست عالية جداً، بل متوسطة، وقد تناسب أغلب الناس. وتختلف الأسعار حسب شكل القطعة والمواد المصنوعة منها؛ فالموزاييك الذي يدخل فيه الصدف يصبح سعره أغلى من الموزاييك المشغول بالخشب فقط، بسبب الجهد الذي يتطلبه صنع الصدف وتطعيمه بالخشب، وطبعاً الوقت له سعره».
كما التقينا السيد "أنطون سلمان" حرفي وصاحب إحدى ورش صناعة الموزاييك في "باب شرقي"، الذي بدأ حديثه قائلاً: «الموزاييك هو فن جمع قضبان من الخشب الملون طبيعياً ذات مقطع مثلث أو مربع ثم تشريحها على شكل رقائق ولصقها على المصنوعات الخشبية بالغراء الطبيعي، والبدن الأساسي للموزاييك يسمى السادة، وهو من خشب الجوز أو الزان، ويتمّ لصق شرائح الموزاييك عليه، إنَّ هذه الشرائح مصنوعة من خشب الزيتون والورد والليمون والكينا، وبعد تطعيمها بالأشكال الهندسية يتمّ التنعيم "بالبرداخ"، ثم الدهن بالغراء الأحمر، وفي القديم كانت تستخدم "الشلة اليدوية" أو المنشار اليدوي في صناعة الشرائح الخشبية، أما الآن فأصبحنا نستخدم منشار الخشب الكهربائي والأدوات نصف الآلية لكن رغم ذلك الاعتماد الأكبر على العمل اليدوي في صنع القالب والقياس الذي يحتاج لخبرة كبيرة ودقة عالية، واعتماد نماذج لزخرفة المصنوعات الخشبية بها لتنشأ حرفة فن الموزاييك التي تميزت بها دمشق حتى أصبحت محط أنظار الزوار الذين يحملونها إلى بلدانهم كمنتج دمشقي خالص، وخصوصاً الدبلوماسيين منهم حيث يعدونها كتحفة تحمل عبق دمشق وتميزها».
يواصل "سلمان" حديثه، فيقول: «إن طريقة العمل تحتاج إلى مهارة وبراعة وصبر وحب لهذه المهنة العريقة، ويتم العمل وفق الميول والأشكال الهندسية في الرسم، وإن العمل يتم بشكل يدوي بالكامل، والقطعة الواحدة قد تحتاج إلى أكثر من ثلاثة أشهر لتكون جاهزة، ونقوم بصناعة كراسي وطاولات نرد وعلب مصاحف وهدايا وأثاث منزلي، ويتراوح سعر القطعة الواحدة بين 100 ومليوني ليرة سورية، وذلك حسب الجودة ومقدار الجهد المبذول لإنتاجها، وتتوافر أحجام متعددة لعلب الموزاييك وأبرزها علب الخواتم الصغيرة وسعرها 50 ليرة، والحجم الوسط يتراوح سعره بين 150 و250 ليرة، لكن إذا أضيف إليه الصدف يتراوح السعر بين 300 و400 ليرة، فيما يتراوح سعر صندوق للمجوهرات السادة من 400 إلى 600 ليرة، بالإضافة لصواني الموزاييك التي غالباً ما تكون طقماً بقطعتين وحتى ست قطع، يتراوح سعرها بين 600 و15000 ليرة، بينما يتراوح سعر طاولات الزهر المصنوعة من الموزاييك بين 500 و20000 ليرة، إذ تلعب طريقة التفنن والرسم ونوعية الصدف المتواجد على القطعة دوراً كبيراً في تحديد السعر».
يضيف الحرفي "سلمان": «أصبح لي في ممارسة مهنة الموزاييك 62 عاماً، وعائلتي أصبح لها في ممارسة هذه المهن أكثر من مئة وعشرين عاماً، كما ورثنا أنا وإخوتي هذه الورشة من والدي منذُ 40 عاماً، وأنا مستمر في عملي لأنني أحب حرفة الموزاييك وأعمل فيها لإرضاء ذوقي الفني، وهي حرفة جميلة وتحتاج لوقت وجهد كبيرين وصبر أيوب لأننا نتعامل مع مساحات صغيرة وقطع خشبية دقيقة».