تمتاز بدقة الملاحظة ورؤيتها الثاقبة لمشاكل المجتمع الاجتماعية، وهي ذات قلم استثنائي لا يتردد في طرق أبواب الغضب ورفض الموروثات في مجتمعاتنا الشرقية فرسمت لها مكانة مرموقة بين أدباء القرن.
إنها الدكتورة "هيفاء بيطار" التي تحدثت في حوارها مع "eLatakia" بتاريخ 6/11/2011 عن الكثير مما يعانيه الأدب والأدباء:
** في الواقع كتبت سيرة ذاتية ناقصة في روايتي الأولى "يوميات مطلقة" والتي هي رد فعل على مجتمع ذكوري مجحف بحق المرأة، خاصة المطلقة وكانت رواية ثأر من القوانين الكنسية الظالمة التي تحكم على المرأة التي تطلب الطلاق بسنوات طويلة من الهجر، لكن في أعمالي اللاحقة لم أعتمد أبداً على سيرتي الذاتية إذ كانت قصصي ورواياتي عن نساء وحالات إنسانية كنت شاهدة عليها وبالفعل أنا مؤمنة أن الكاتب يجب أن يكون عالي الثقافة وأن يقرأ كثيراً بعلم النفس.
ولا أخفيكَ أنني رغبت حين أنهيت دراسة الطب أن أختص بالطب النفسي لكن للأسف تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، في زمننا هذا لا يمكن لموهبة خام أن تثبت نفسها دون ثقافة، وأنا أعترف أنني قارئة نهمة لكل أنواع العلم والثقافة خاصة كتب علم النفس.
** لم أختر الرواية وحدها فلدي خمس عشرة مجموعة قصصية وأنا أحب فن القصة القصيرة وأجده مهما مثل الرواية، والذي يجعلني أختار بين قصة قصيرة أو رواية هو الموضوع، فالرواية تعطيني مساحة أوسع للتعبير عن الواقع وتجارب الناس أما القصة القصيرة فمجرد لقطة ذكية وإبداعية، إما أن تنجح أو تفشل وأنا في الحقيقة مؤمنة بدور الثقافة والفن بشكل عام في تطوير حياة الناس ودفع البشرية نحو حياة أفضل والتغيرات المتلاحقة ستؤدي حتماً لتغيير قوانين الدولة.
** لا أومن بالإلهام الهابط من السماء أنا كاتبة واقعية بامتياز لا أستطيع أن أكتب إلا عن بشر من لحم ودم وعن تجارب أثرت بي وتفاعلت معها لكن ما يحصل أن عين الكاتب تملك الرؤية وحساسية خاصة لالتقاط الأحداث والمواقف مثلا في قصة "يكفي أن يحبك قلب واحد لتعيش" بنيت كل القصة على مجرد لقطة أو موقف كنت شاهدة عليه وهو حين زارتني أم شابة فقيرة تحمل ابنها المعوق لأن طرف عينه أحمر كانت تتكلم وعيناها ترشحان بالدمع وتحمل ابنها المعوق كأنه صليب الحب يومها فكرت أن هذا الطفل يعيش بقوة حب قلب واحد هو قلب الأم فكتبت قصة لا علاقة لها أبداً بالحادثة لكن الموقف مع تلك الأم تفاعل في داخلي وخرج قصة، ببساطة الكاتب هو الذي يتمتع بموهبة التقاط حالات إنسانية وتجسيدها في الكتابة، أي استثمار الظروف.
** الحركة النقدية مقصرة جداً، وهناك الكثيرون ممن يدعون أنهم نقاد، أما هم في الواقع مجرد ساردين أو شارحين للعمل، كما لو أن القارئ أبلهاً لا يستطيع أن يفهم الرواية إن لم يعيد الناقد تلخيصها له.
أين النقاد العرب من وزن "جبرا إبراهيم جبرا" و"ميلان كونديرا" و"كولن ويلسون" لا أنكر أن هناك نقاداً مبدعين في العالم العربي، لكنهم يعدون على أصابع اليد الواحدة، وبكل صراحة نادراً ما نقرأ نقداً موضوعياً لعمل أدبي إذ تتدخل العوامل الشخصية كثيراً في النقد فإما أن يرفع الناقد الكاتب إلى سابع سماء من التقريظ والمدح أو يهبط به إلى أسفل السافلين من الذم.
** تأثرت بالكثير من الروائيين العرب والأجانب وما زلت أتأثر بلا مبالغة أتأثر بكل ما أقرأ لهم لكن أدين بعظيم الشكر لدوستويفسكي الذي أعتبره ليس أعظم روائي فقط بل مؤسس علم النفس لأنه أهم من فرويد بنظري، أحب كتابة بلزاك وكونديرا وهنري ميللر وماريو يوسا وغيرهم ومن الكتاب العرب أحب كتابة الطاهر بن جلون وأمين معلوف وصنع الله إبراهيم وجمال ناجي وعبد الله بن بخيت وغيرهم.
** ربما هذا الكلام ينطبق على بدايات كتابات المرأة وهو صحيح ومنطقي لأن المرأة التي دفنت في الصمت لسنوات والتي لم تملك الجرأة على التعبير عن مشاعرها وأفكارها طوال عقود دخلت عالم الكتابة بحماسة وكانت كتابتها أشبه بالصراخ لتنفيس كبت مديد وفعلا احتلت قضايا المرأة والأنوثة كتابة العديد من الكاتبات لكن السنوات العشر الأخيرة قدمت لنا روايات عظيمة لكاتبات خرجن من منظور الأنوثة الضيق وكتبن روايات تعكس الواقع الاجتماعي وتفوقن على كتابات العديد من الكتاب الرجال، كم من الكاتبات اللبنانيات كتبن عن الحرب الأهلية في لبنان وكم ازدهر الأدب النسائي في السعودية وتجرأ وخرق الخطوط الحمر هناك مثلاً رواية "الآخرون" لصبا الحرز وعن نفسي ورغم أنني أتهم دوماً عن تحيزي لقضايا المرأة فقد كتبت أكثر من أربع روايات وعشرات القصص القصيرة تفضح الفساد بكل أشكاله خاصة فساد القضاء وفساد النفوس وتغيير الأخلاق، لم تعد الكاتبة مسكونة بهاجس الأنوثة الضيق وأظن أن أهم ما يتميز به عصرنا هو تألق المرأة في كل المجالات، يكفي أن نتذكر أن ثلاث كاتبات حصلن على نوبل في السنوات الخمس الأخيرة وهن دوريس ليسنغ، والفريدة يلنيك، وهيرتا موللر، أليس هذا أكبر مؤشر أن الألفية الثالثة للنساء؟.
** ليس المبدع زوجاً فاشلاً بالضرورة لكن الواقع يظهر لنا فشلاً كبيراً لزيجات المبدعين وأظن أن السبب يعود لتلك الازدواجية في التصرف بين الأفكار التقليدية الموروثة التي ربينا عليها خاصة أن الرجل يصعب عليه القبول بندية المرأة وبأنها كائن مثله تماما ومن حقها الحصول على كل امتيازاته في الحرية والتصرف وبين رغبة الرجل أن يكون متحضرا ومؤمنا فعليا بدور المرأة ومساواتها له المشكلة قائمة في ذهن الرجل المبدع لأنه لم يتخلص تماما من البدوي القابع في أعماقه كما لو أن المبدع يحتاج لامرأتين امرأة تكون زوجته وأما لأطفاله وتكون وديعة وتدور بفلكه ولا تملك تجارب عاطفية وجنسية كي تظل سمعتها عطرة وامرأة للحب والانطلاق والحرية تكون متميزة وصاحبة مشروع خاص في الحياة وطموحة وذات تجارب لكنه ليس مستعدا للزواج من امرأة مثلها.
** فعلا حدث معي أن روايتي الأولى كانت كما ذكرت لك شبه سيرة ذاتية حكيت فيها عن معاناتي مع المحاكم الروحية المسيحية، وأنا أعتقد أن المعاناة تلعب دوراً أساسياً إن لم أقل كلياً في خلق الأدب والإبداع بشكل عام لكن ليس بالضرورة أن يكون كل عمل أدبي وليد معاناة شخصية، لقد كتبت عن كثير من الناس الذين صادفتهم في حياتي وتمثلت معاناتهم وتجولت في تلافيف دماغهم وقرأت أفكارهم لكن تظل الكتابة من رحم الألم الأكثر تأثيراً في القارئ الألم الإنساني واحد والألم يترك وشما وتأثيرا كبيرا في الإنسان أما الفرح فسطحي مقارنة بالألم.
** لم أفهم قصدك تماما لكن أعتبر نفسي محظوظة أنني طبيبة لأن ثمة تزاوجاً ناجحاً جداً بين الطب والكتابة فكلاهما يهتم بالإنسان، والمريض يحكي أسراره للطبيب، لقد كتبت عشرات القصص القصيرة والروايات من وحي عملي كطبيبة عيون في مستشفى الدولة، وفي عيادتي الخاصة وأنا من الكتاب المسكونين بهاجس تطوير الذات وحين تمر أياماً لا أقرأ أو لا أكتب أحس بتأنيب الضمير والخجل.
** أظن أن الرواية في الوطن العربي تقوم بدورها في التعبير عن واقعنا العربي المحبط وأعتقد أن الأدب هو الأكثر شفافية ونقاء في عالمنا العربي وبأنه يجب أن يلعب دور المنقذ والمخلص من مشاكل مستعصية مثل الأفكار السلفية المتخلفة المتكاثرة في مجتمعنا والفساد ونهب المال العام والعنوسة والبطالة الخ.. كل تلك المشاكل يعبر عنها الأدب ومجرد أن يفضحها يكون قد قدم نصف الحل، أنا أعول على الأدب وليس على السياسة في إنقاذ الشعوب من براثن التخلف، هناك روايات عظيمة فعلا في جرأتها وقدرتها على تنوير عقل القارئ مثل "تغريدة البجعة" لمكاوي سعيد و"شارع العطايف" لعبد الله بن بخيت و"أن ترحل" للطاهر بن جلون و"عندما تشيخ الذئاب" لجمال ناجي وغيرهم مثلما ذكرت ليس مجرد كاشف لعلل المجتمع بل يحفز الناس لتلمس الحلول.
** لا لم أقل كل ما أريد قوله وبصراحة أنا مسكونة بالخوف من الرقيب الذي يتمتع بالسلطة المطلقة ليبطش بكل فكر يهدده أو يعتبره معارضاً له، وأحس أن هناك رقيباً صغيراً مزروعاً في خلايا دماغي وهو أشد خطورة من الرقيب الداخلي لكني أنجح إلى حد كبير بالتحايل على الرقيب كأن أكتب عن مدن بلا جغرافيا وشخصيات متنفذة بلا أسماء، الكتابة المواربة هي الحل لكني أحلم بزمن أعتلي فيه خوفي وأسحقه، وأكتب عملاً متعمداً بماء الحرية.
** لا تتصور مدى سعادتي بالقبول الكبير لكتاباتي خاصة لدى الشباب الجامعيين، وفي كل مكان أسافر إليه أجدني محاطة بشابات ونساء يقلن لي أنت تعبرين عنا، وتقولين ما نخشى قوله، هذا البوح أو الاعتراف يعطيني زخما عجيباً للكتابة بل وحده يشعرني بأنني كاتبة وهو الذي يجعلني أتابع الحفر في هذا الطريق الصعب والمقلق وهو طريق الكتابة ولم أواجه مشاكل جدية في المجتمع بسبب كتاباتي سوى رفض بعض رجال الدين المسيحيين لروايتي "يوميات مطلقة" وروايتي "امرأة من طابقين" حيث أعلن رجل الدين في موعظة يوم الأحد في الكنيسة بمنعه قراءة هذين العملين.
** ليس المبدع وحده محظوظاً بتعدد وسائل النشر بل كل إنسان طامح للمعرفة والاستنارة، الانترنت أحدث ثورة حقيقية في حياة الناس كذلك الفضائيات أية متعة نحسها حين نخرق كل المواقع المشفرة لم يعد هناك رقابة صار بإمكان المواطن وهو جالس في غرفة نومه أن يطلع ويشارك بكل ما يحصل في العالم، وهذا له أهمية خاصة بالنسبة للكاتب الذي يمكنه بوسائط الاتصال الحديثة أن يزيد من ثقافته ومعلوماته وأن يقيم صلات مع غيره من المثقفين والناس.
** طبعاً أطمح لذلك وبقوة خاصة أن كل كتاباتي واقعية وقد تم شراء روايتي "هوى" من قبل المؤسسة العامة للسينما لتتحول إلى فيلم سينمائي، لكنه حتى الآن لم ير النور.
** الرجل يتحمل المسؤولية الأكبر عن اضطهاد المرأة، لأنه المشرع ولأنه يسن القوانين وطبعاً يسنها لمصلحته، ولأنه يسخر الدين لمصلحته أيضاً كم من الآيات القرآنية والأحاديث والفتاوى، حورت وفسرت خطأ من أجل مصلحة الرجل، لكن هذا لا يمنع أن عدو المرأة هي المرأة أيضاً وبأن النساء مسؤولات عن جزء كبير من تخلفهن وأعرف العديد من النساء يفضلن أن يكن جواري وأن يصرف الرجل عليهن من أن يسعين ليكون لهن دوراً في المجتمع لكن أنا أؤمن أن تحرر المرأة هو مسؤولية النساء.
** على الإطلاق حين أكتب لا أفكر سوى بذاك الهوى المهيمن علي وهو أقوى هوى في الوجود هوى الكتابة أكون مصادرة كلياً ومستلبة للموضوع الذي أكتبه لكن أظن أن هناك جانباً لا واعياً في عقل كل كاتب بحضور قارئ ما لان الكاتب يكتب ليقرأ ولا يكتب لنفسه هذا ما أعتقده.
** لا أحب أن أنظر لعلاقة المرأة بالرجل كخصمين أو حتى متنافسين لكل جنس أدبي خصوصيته وما من شك أن الأدب النسائي تطور وأبدع في السنوات الأخيرة لكن هذا لا يقلل من قيمة إبداع الرجل أنا أؤمن أن المرأة تقرأ العالم بطريقة مختلفة عن قراءة الرجل وهذا ما يغني الأدب.
** لا توجد رواية معينة أقرب إلى قلبي كما قلت لك أنا أتأثر بكل ما أقرأ وأكتب عن كتب استوقفتني وأكثر ما أحببت مؤخراً رواية "ألف شمس مشرقة" لخالد الحسيني وهو كاتب أفغاني.
يقول الكاتب والصحفي "أسامي المحمود" بأن ما تقدمه الأديبة "هيفاء" هو روح جديدة للنص الإبداعي فما قرأناه عبارة عن لغة وحركة مميزة وهذا ما لا نراه في أغلب الأدب.
أما الشاعرة البحرينية "لمياء بنت السيد صالح" فذكرت في إحدى مقابلاتها بأن النص الروائي للأديبة "هيفاء بيطار" هو خلطة سحرية تجعلك تبحث في الواقع عن حلول مهما كانت الصعاب وما تقدمه هو حقيقة الواقع الذي نعيشه فهي من أقدر الأدبيات على تعرية الواقع وأخطائه.
الجدير بالذكر أن للدكتورة "هيفاء بيطار" عدداً من المجموعات القصصية والروايات وشاركت في مهرجانات عديدة في سورية والوطن العربي إضافة إلى أنها تكتب في جرائد عربية كالسفير وعلى سبيل الذكر وليس الحصر من مجموعاتها "أبواب مواربة" و"امرأة من طابقين" و"هوى" وغيرها الكثير.