لعل أكثر أهالي دمشق وزوارها يمرون - منذ عشرات السنين وإلى اليوم- بجانب بابها الضيق مرور الكرام؛ ولا يعلمون أنهم أمام مدرسة شرعية تاريخية كانت تحكم على صحة سند حديث رسول الله في مختلف أمصار العالم الإسلامي، وأنها كانت مدرسة وسكن المحدث الأكبر "محمد بدر الدين الحسني".
إنها مدرسة "دار الحديث الشريف" التي تقع في قلب دمشق، وتحديداً في منتصف سوق العصرونية؛ بل للمفارقة أن بعض محال ودكاكين هذا السوق التاريخي هي وقف لهذه المدرسة أو جزء مقتطع منها، حكاية تاريخ هذه المدرسة كبناء حكاية طويلة ودورها الديني حكاية طويلة أخرى أيضاً، لذا كان لابد من زيارتها، مدونة وطن "eSyria" وبتاريخ "30/8/2012" زارت هذه الدار للتعرف على تاريخها كأحد أقدم المدارس في دمشق وعلى دورها الديني كأحد أهم أماكن إصدار الحكم على الحديث الشريف والفتوى على المذهب الشافعي في يوم من الأيام، البداية كانت مع السيد "عدنان السقا" أحد أصحاب المحال المجاورة للدار في سوق الحميدية حيث قال: «في الحقيقة أنا أعمل في السوق منذ 20 عاماً ولم أكن أعلم بأهمية دار الحديث، حيث كنت اعتقد أنها مدرسة شرعية متواضعة، ولكن جاءني في أحد الأيام سائح مسلم من الصين يسأل عن هذه المدرسة تحديداً؛ حيث إنه قضى أكثر من ساعتين وهو يبحث عنها دون جدوى، فذهبت برفقته إلى الدار وتعرفت من خلاله على أهمية هذه الدار ومكانتها، وعلمت أن عدداً كبيراً من علماء المسلمين أقاموا ودرسوا في هذه الدار وأهمهم الشيخ "محمد بدر الدين الحسني"، ومنذ ذلك اليوم احرص على الصلاة في هذه الدار التي تضم مصلى وموضأ إلى جانب الصفوف الدارسية».
لابد من الإشارة إلى الغرفة الخاصة بالمحدث الأكبر "محمد بدر الدين الحسني" التي كانت تقع في الطابق العلوي والتي كانت تطل على المحراب، كما كان لابنه الشيخ "تاج الدين الحسني" - والذي شغل منصب رئيس الجمهورية - غرفة صغيرة في الدار كان يعتكف فيها برهة من الوقت لمدة تصل إلى عدة ساعات قبل أن يتخذ أي قرار هام لمصلحة سورية
الأستاذ "عماد الأرمشي" – مؤرخ مهتم بتأريخ دمشق - نقل نبذة تاريخية عن بناء "دار الحديث الشريف" موثقة من قبل الشيخ "محمود الرنكوسي" أحد طلاب الشيخ "محمد بدر الدين الحسني" وخليفته من بعده على هذه الدار وإدارتها: «بنيت هذه الدار كدار سكنية للأمير "صارم الدين قيماز النجمي" المتوفى سنة /596/ هـ وقد دفن فيها، ومن بعد وفاته اشتراها الملك الأشرف "مظفر الدين" من ملوك الدولة الأيوبية وجعلها داراً خاصة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع سكن للشيخ المدرس بها، وافتتحت سنة /630/ هـ وجعل على مشيختها الشيخ "تقي الدين بن الصلاح" الذي أملى بها الحديث وألـّـف فيها مقدمته الشهيرة بـ"مقدمة ابن الصلاح" في علم "مصطلح الحديث".
وقد وضع "موسى الأشرف" بها نعلي النبي صلى الله عليه وسلم في الجدار القبلي في صندوق خشبي فوق المحراب، هكذا سمعته من فم أستاذنا المحدث الأكبر الشيخ "محمد بدر الدين الحسني" رحمه الله حين سئل عن "المعنى اللطيف" الذي عناه ابن السبكي في قوله، حين زيارته لدار الحديث، وقوله:
وفي دار الحديث لطيف معنى * أصلي في جوانبها وآوي
عساني أن أمسّ بحُرِّ وجهــي * مكاناً داسه قدم النواوي
فقلت للشيخ رحمه الله: وهل بقي النعل حتى الآن؟ فأجاب الشيخ: لا، فسألته عن السبب، فقال: احترقت المدرسة، واحترق معها، ولكن بقي السر موجودا حتى الآن وبعد الآن» (*).
الشيخ "محمد هاني أوطه باشي" المدرس وأمين سر جمعية "دار الحديث الشريف" تحدث عن أهمية هذه الدار من الناحية الدينية بالقول: «كانت هذه الدار أول دار مختصة بالحديث الشريف في العالم الإسلامي، وكان يطلق على الشيخ القائم عليها لقب "شيخ الإسلام"، وأول من تولى شؤونها كان الشيخ "ابن الصلاح" وكثير من كبار علماء المسلمين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر "الإمام النووي، والإمام الحافظ المزي، وقاضي القضاة شيخ الإسلام تاج الدين السبكي، وغيرهم من كبار علماء دمشق والعالم الإسلامي قاطبة"».
جاءت أيام أهملت فيها "دار الحديث" بل إنها أصبحت أواخر العهد العثماني مستودعاً للخمر قبل أن تعود كمدرسة شرعية أقام بها علامة دمشق الشيخ الأكبر "محمد بدر الدين الحسني" وهنا أذكر ما أورده المؤرخ "محمد أكرم العلبي" في ترجمته "دار الحديث الشريف": «بعد عام 1200 هـ تلاشى أمر هذه الدار واستولى المختلسون على أوقافها، وعلى الدار المخصصة لمدرسيها ثم آلت إلى إحدى النسوان، ثم قام العالم المغربي المشهور "يوسف البيباني" بمحاولة لاستعادة الدار، فعمدت المرأة الفاجرة إلى تأجيرها لأحد التجار الذي حول بدوره إحدى القاعات إلى مستودع للخمر، فسافر الشيخ إلى رودس (في تركيا) والتقى هناك الأمير عبد القادر الجزائري، الذي اشترى الدار عند قدومه إلى دمشق وجعلها وقفاً على الشيخ المغربي بعد أن رممها»(**).
وهنا يذكر الشيخ "أوطه باشي" هذه القصة: «ذهب الشيخ "يوسف الحسني" (والد الشيخ محمد بدر الدين الحسني) إلى السلطان "عبد الحميد" ووقف أمامه وقال بصوت عال "نويت أن أصلي على هذه الجنازة أربع تكبيرات" فسأله السلطان عن السبب فأجابه الشيخ يوسف: "أنت سلطان المسلمين ودار حديث رسول الله تخمر بها الخمور"، فأمر السلطان بإخراج كل المستودعات وإعادة الدار إلى مهمتها الأصلية.
في النصف الأول من القرن العشرين تولى إدارة هذه الدار "الشيخ "محمد بدر اليدن الحسني" وكان لديه في البداية ستة طلاب فقط، والحقيقة أنهم لم يكونوا طلاباً بل علماء، ومن ثم بدأ يتوسع باستقبال طلاب العلم في هذه الدار التي أصبحت من أشهر المدارس في بلاد الشام، ودرس في هذه الدار عدد كبير من العلماء وطلاب العلم الذين كان لهم دور كبير في انتشار العلم الديني في "سورية" فيما بعد ومنهم "الشيخ صالح فرفور، والشيخ عبد الكريم الرفاعي، والشيخ علي الدقر، والشيخ محمود الرنكوسي، والعلامة محمد المبارك، والعلامة الشهير طاهر الأتاسي، والشيخ جمال الدين القاسمي وغيرهم الكثير..".
بعد وفاة الشيخ "محمد بدر الدين الحسني" تولى أمر الدار الشيخ "محمود بن قاسم بعيون" المشهور بـ"الرنكوسي" حيث قام بتحديث الدار وجعلها مدرسة أكاديمية تدرس العلوم الدينية والعلوم الكونية، وازداد في عهده عدد الطلاب من 13 طالباً إلى حوالي 200 طالب، وأصبح للدار جمعية باسم جمعية "دار الحديث الشريف" تقوم على تأمين احتياجات الدار والطلاب على حد سواء».
وختم الشيخ "أوطه باشي" حديثه عن دار الحديث بالقول: «لابد من الإشارة إلى الغرفة الخاصة بالمحدث الأكبر "محمد بدر الدين الحسني" التي كانت تقع في الطابق العلوي والتي كانت تطل على المحراب، كما كان لابنه الشيخ "تاج الدين الحسني" - والذي شغل منصب رئيس الجمهورية - غرفة صغيرة في الدار كان يعتكف فيها برهة من الوقت لمدة تصل إلى عدة ساعات قبل أن يتخذ أي قرار هام لمصلحة سورية».
اليوم تتألف دار الحديث من القسم الأرضي الذي يضم المسجد والموضأ والمكتبة وإدارة جمعية دار الحديث، أما القسم العلوي فيضم الصفوف الدارسية وغرفاً إدارية، أما المشرقة العلوية فخصصت كباحة للطلاب.
(*): مختصرة من "المعرفة الحقيقية لدار الحديث الأشرفية" للأستاذ الشيخ محمود الرنكوسي المتوفى سنة /1985/ مـ.
(**): من كتاب خطط الشام للمؤرخ محمد أكرم العلبي باختصار.