لطالما كانت الأيقونات العمرانية التي اعتمدت على نظام الأبلق والمتواجدة في "دمشق" القديمة على سفح قاسيون، تأسر قلوب السكان والسياح؛ ولعل مئذنة مسجد "سعيد باشا" بقيت عصية على الهدم بعد تجديد الجامع، شامخة مزهوة بتاريخ ناهز ال200 عام.
مدونة وطن "eSyria" زارت المسجد بتاريخ 25/7/2013 والتقت السيد "عدنان زيدان"- أحد المصلين- الذي حدثنا عن المسجد قائلاً: «أتردد على المسجد مذ كنت طفلاً، فقد كنت آتيه أنا وأبي واليوم أصطحب طفلي الصغير إليه، فأنا أحفظه جيداً وأذكر كل تفاصيله القديمة قبل تجديده».
أتردد على المسجد مذ كنت طفلاً، فقد كنت آتيه أنا وأبي واليوم أصطحب طفلي الصغير إليه، فأنا أحفظه جيداً وأذكر كل تفاصيله القديمة قبل تجديده
وعن سبب التسمية زرنا السيد "خليل الألوسي" مختار حي أسد الدين الذي قال: «سمّي المسجد بهذه التسمية نسبة لمشيده "محمد سعيد بن شمدين آغا الكردي الداقوري الدمشقي" والذي أسسه عام /1891/ في أيام فترة حكم السلطان العثماني "عبد الحميد الثاني"، حيث كان "سعيد باشا" آنذاك أمير الحج الشامي الشريف، وبقي المسجد على شكله إلى تاريخ /2005/ إذ تم تجديده وإصلاحه بشكل كامل باستثناء مئذنته، حيث شملت الإصلاحات الحرم البالغة مساحته حوالي /500/متر مربع، وتم بناء طابق علوي على مساحة المسجد لإقامة معهد شرعي فيه».
والتقينا السيد "أمجد اللحام" صاحب أحد المحال القريبة من الجامع وهو دائم التردد إليه فقال: «يعتبر مسجد "سعيد باشا" نقطة علام في منطقة "ركن الدين"، فإذا ما أراد أحد أهالي الحي أن يدل شخصاً إلى مكان قريب في المنطقة– وخاصة بالنسبة لشارع أسد الدين والجادات التي فوقه- كان المسجد محور الاستدلال، وهناك الكثير من الأهالي ممن يرسلون أولادهم إلى المعهد في الطابق العلوي من المسجد لتعلم "القرآن الكريم" وبعض العلوم الشرعية.
وللمسجد مكانة خاصة في قلوب أهالي الحي، فالإصلاحات التي تمت عام /2005/ تمت بجهودهم ومساعداتهم، فنحن منذ وعينا في الحي والمسجد أمامنا إلى أن أصبح جزءاً أساسياً في المكان».
ثم تابع: «المسجد ليس كبيراً جداً في المساحة لكنه كبير في القيمة التاريخية، وفي صدر المسجد يوجد المحراب المزخرف بدقة عالية، وإلى جانب المحراب منبر خشبي قديم يعتليه الإمام في خطب صلوات الجمعة، أما أرض المسجد فيكسوها السجاد الدمشقي وعلى جدرانه مكاتب خشبية صغيرة تحتوي على المصاحف وغيرها من كتب العلم وفي آخر الحرم مجموعة من المقاعد للشيوخ والعجزة ممن لا يستطيعون الصلاة واقفين، وفي الطابق العلوي من المسجد يتم تعليم القرآن الكريم للأطفال وغيرها من العلوم الشرعية للشباب.
أما عن طقوس المسجد فهو يتميز ببعض الطقوس الخاصة بشهر "رمضان" تحديداً، إذ تجد من يعتكف فيه خلال العشرة الأواخر من الشهر الكريم، كما تجده يغص بالناس في ليلة القدر إحياءً لعظمة هذه الليلة، إضافة إلى أن المسجد يوفر "طعام الفطور" للمحتاجين من الصائمين خلال الشهر الفضيل، أما في أيام الجمعة فتجمع التبرعات داخل المسجد إما لمساعدة المساجد الأخرى وإصلاحها، أو لمساعدة أحد المحتاجين.
وعند الخروج من صلاة الجمعة يتجمع أمام المسجد عشرات الباعة الجوالين، ليشكلوا ما يشبه السوق الصغيرة التي يظل العمل فيها لساعة أو أقل، ويقوم المصلون خلالها بابتياع ما يحتاجونه من خضار وفاكهة وبعض لوازم البيت، وكل هذه الطقوس تجعل مسجد "سعيد باشا " جزءاً روحياً من حي "ركن الدين"، فالروحانيات بحد ذاتها أمر رائع بالنسبة للإنسان فكيف بها إذا كانت تمارس في مكان له خصوصية تاريخية وأثرية؟!».
إن من يطلع على تاريخ المساجد في "دمشق" يرى أن لمسجد "سعيد باشا" مكانة مهمة من حيث التاريخ وفن البناء، وهناك العديد من الكتب التي وثقت هذا المسجد ومنها كتاب الدكتور "أسعد طلس" عند إحصائه لمساجد دمشق ضمن تحقيقه لكتاب "فن المقاصد في ذكر المساجد" والكتاب تأليف "يوسف عبد الهادي" حيث يقول فيه: «يعتبر جامع "سعيد باشا" آخر جامع في المدينة شرقاً، وقد كان خلف الباب الرئيسي بستان واسع جميل، وهناك ثلاثة غرف واسعة تابعة لحرم المسجد غرباً».
وعن مئذنة الجامع صنف الدكتور المرحوم "قتيبة الشهابي" ذلك بأنها من مآذن دمشق القديمة ذات الطراز الشامي كثير الأضلاع، فجذعها حجري جميل أصم خال من العناصر التزيينية والمقرصنات التي كانت سائدة في ذاك العصر، وكذلك الشرفة كثيرة الأضلاع ترتكز فوق أفاريز تساير أضلاع الجذع، وكذلك الدرابزين والمظلة والجوسق كثير الأضلاع خال من الزخارف وفوقه القلنسوة المخروطية كثيرة الأضلاع من التوتياء.
أما واجهة المسجد فهي حجرية صغيرة أبلقية البناء تقوم على قوسين من الأبلق، وبداخل القوس الصغير مدخل الجامع وعليه تقوم المئذنة سابقة الذكر والمشهورة بمئذنة "شمدين".
جدير بالذكر أن ساحة "شمدين" الشهيرة سميت نسبة إلى مؤسس الجامع "سعيد باشا شمدين"، والذي بنى لنفسه منزلاً في ذات المنطقة، حيث يعتبر من المنازل الأثرية في حي ركن الدين، ولايزال قائماً إلى اليوم.