حالت أوضاعه المادية الصعبة دون أن يحقق طموحه في دراسة الطب البشري بالجامعات السورية رغم كونه من المتفوقين، فكان خيار "سالم التركي" ابن قرية "الجفرة" في "دير الزور" أن يدرس التمريض في محافظة "السويداء"، ولكثرة ما كان يُتابع عمل المُجبّرين الشعبيين شُغِفَ بهذه المهنة، ليتخرج من مدرسته التمريضيّة مُتابعاً عمل تجبير الكسور في مشافي محافظته، ورغم تقاعده، لا يزال مقصدَ المرضى من مُصابي الكسور العظميّة، سواء في المشفى أو في منزله.
جابر الأوجاع
44 عاماً قضاها "أبو أحمد .. سالم التركي" بالعمل ضمن المشافي الحكوميّة مُجبّراً لمرضى الكسور العظميّة، بدأها فور تخرجه من مدرسة التمريض بمحافظة "السويداء" عام 1977 ، يقول لـ"eSyria": "بدأت العمل في المشفى الوطني بمدينة "دير الزور" وترأست قسم الجراحة العظميّة تمريضياً، فيه اكتسبت الكثير من الخبرة بحكم المتابعة لمختلف أنواع الإصابات التي تأتي إلى المشفى، ناهيك بما كنت أستقبله من حالات في منزلي وكنت أجري لها الإسعافات الأوليّة ريثما تصل المشفى، كان عملي الإسعافي يُخفف الكثير من المعاناة، ومنها حالات تحتاج تعاملاً بسيطاً يوفر الكثير على الأهل من مصاريف التنقل، كنتُ أتمنى دراسة الطب، لكن قدّر الله وما شاء فعل، ما أقوم به يمنحني الكثير من الثقة واحترام الذات، وخصوصاً أنّي أسعد كثيراً بكلمة شكر من أهل مصاب".
امتلك "أبو أحمد" سُمعةً حسنةً بسبب درجة إتقانه للتجبير، لا بل بات نصيحة كل مُصاب لمن تعرض لكسر ما في أحد أطرافه، أو حالة خلع لصغير أو كبير، يقصده الأهالي في المشفى، وغالباً يكون السؤال (إن كان أبو أحمد موجوداً فالحمد لله)، هذه الأحاديث سمعناها من أناسٍ كُثر، قلناها له فأجاب : "إنْ كان من مُقابل أحصل عليه لقاء عملي فهو هذا العرفان والثقة التي أولاني بها الناس، أشعر بغبطة وسعادة بهذه الكلمات التي تزيدني عطاءً أكثر، أشكر الله أنّي أقوم بواجبي على أكمل وجه، وأعمل جاهداً لأنقل ما تعلمته لمن يختص من شباب التمريض بعلاج الكسور، وهم على الدوام يُتابعون ذلك أثناء العمل".
سنوات الحصار
أقسى مرحلة عاشتها محافظة "دير الزور" هي مرحلة سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي على المدينة، باستثناء ثلاثة أحياء هي "القصور، الجورة، هرابش، "وقرية" الجفرة " كانت تحت السيطرة مع منتصف العام 2015، ثلاثُ سنوات من الحصار أنهك فيها الحصار البشر وحوّل "دير الزور" إلى مدينة أشباح، كان الخروج من هناك يعني الحياة رغم كل الصعوبات التي قد يواجهها من ينجو، غير أنّ "التركي" اختار البقاء، ليواصل العمل في مجمع المشافي (مشفى الأسد).
ويضيف: "لا يتخيل أحدٌ حجم المآسي والمعاناة، لا يمكن ذلك، إلا لمنْ عاش الحصار واقعاً بين شوارع وأزقة وبيوتات المدينة، وتجد قصص الحصار في وجوه الناس آنذاك، بقينا نعمل في المشفى، كثير من الأطباء والكوادر الصحيّة خرجوا، من بقي يُعدون على الأصابع، كان علينا استقبال الكثير من الإصابات، الكسور وغيرها، لا يمر يوم دون قصف من قبل التنظيم الإرهابي، ليُخلّف ذلك شهداء وجرحى، لم نشعر بالمعاناة من نقص في الأدوية بل كانت مشكلتنا الأكبر هي نقص الكوادر، كانت المدينة مُحاصرة، وزاد الأمر سوءاً قطع الطريق البري الذي كان يصل الأحياء المذكورة آنفاً ببعضها، آنذاك أطبق الحصار بشكلٍ كامل، لا غذاء ولا دواء إلا عبر ما تُلقيه الطائرات المروحيّة بالمظلات، لم أعد أستطيع الوصول للمشفى، فمارست واجبي في المركز الصحي بحي "هرابش" المُحاصر، كما قريتي "الجفرة" ، كُنّا في المركز كعائلة واحدة نُعالجُ ما نستطيع من إصابات سواء أكان ذلك لمدنيين أو من جرحى الجيش العربي السوري، وكنت أتابع العمل في منزلي أيضاً، ورغم أنّ تقاعدي صادف تلك المرحلة أي العام 2016 لكنّي استمريت بعملي بتكليف من مدير الهيئة العامة لمشفى الأسد الدكتور "مأمون حيزة"، الذي عاصر فترة طويلة من الحصار، كنّا في اليوم الواحد نستقبل 4 أو 5 حالات كسور، حتى في أحيان كثيرة كنت أذهب لمكان الحالة لعلاجها".
"أبو أحمد" الخبير
يصف مدير الهيئة العامة لمشفى الأسد الدكتور "مأمون حيزة" ممرض التجبير "سالم التركي" المُكنى بـ"أبي أحمد" بالخبير ويقول: "خلال فترة الحصار الذي عاشته دير الزور كان الحاضر دوماً لا يتأخر عن عمله، يوجد ليلاً نهاراً في شعبته، وهنا أتحدث عن الأوضاع الخانقة التي عشناها ككوادر صحيّة وعموم أبناء المدينة، ورغم أنه يقطن قريته "الجفرة" التي تبعد قرابة 10 كم -إن لم يكن أكثر- غير أن ذلك لم يحّلْ دون أن يلتحق بعمله في المشفى بشكل يومي على مدى سنوات الحصار، باستثناء أشهرٍ قليلة قُبيل فك الحصار والتحرير، إذ اضطره قطع الطريق من قبل التظيم الإرهابي للبقاء في حي "هرابش" مواصلاً العمل هناك، وكما عرفناه قبل الأحداث وبعدها فقد ظلّ هو الخبرة العاليّة وملجأنا في هذا الاختصاص".
من جانبه طبيب الداخليّة "رعد الفرج" يقول :"اكتسب "التركي" كممرض اختص بتجبير الكسور خبرة دقيقة بحكم المُتابعة وحبه للتعلم، كبار أطباء العظميّة في "دير الزور" يشهدون له بذلك، كنت شاهداً يومياً على عديد الحالات التي تصل المشفى ومدى قدرته على التعامل معها واتخاذه الطريقة العلميّة في تجبير أي كسر، وكوني من الأطباء المُقيمين فترة الحصار فإنني شهدتُ الخدمات التي قدمها في ظل أوضاعٍ قاسية، كان المواظب في دوامه الذي لا يكل ولا يمل من أداء واجبه، لقد قدّمَ العلاجات للمدنيين والعسكريين، ولحالات الحوادث اليوميّة وكان الوحيد الذي بقي كممرض مُختص بالتجبير، وإذ حالَ إطباق الحصار في أشهر ما قبل التحرير دون وصوله للمشفى، فإنه لم يترك ساحة العمل، بل تابع عمله في مركز حي "هرابش" الصحي موجوداً بين الناس وحتى ضمن منزله مُقدماً العلاج للمصابين، أتحدث هنا عمن واكب أداءه عن كثب، "أبا أحمد" يُمثل أيقونة في التصدي والصمود وممن لا يُنسى فضلهم.. كان ولا يزال".
مطلوب بالاسم
طبيب الأمراض العصبيّة "عبيدة عبد الرزاق" أشار لما يمتلكه "التركي" من خبرة كانت حديث أهل الاختصاص قبل أن يكون ذلك من الناس العاديين: "لقد عاصر كبار أطباء المحافظة باختصاص الأمراض العظميّة، ما زاد من خبراته، وهذا الاستنتاج جاء أيضاً عبر شهادات أصدقاء من الأطباء، وكثيراً ما كان الملجأ بهذا الأمر، لا نُريد أن نُقلل من شأنِ أحدٍ، غير أنه بات مقصد الناس لعلاج حالات الكسور، وفي الغالب يطلبه هؤلاء بالاسم حال وصولهم المشفى، أعوام الخبرة قد لا تكفي فقط للنجاح، لذا فالمؤكد أنّ المسألة أيضاً مسألة حب التعلم والمعرفة، وما عرفته منه شخصياً هو أن (التجبير) كان الاختصاص الذي أحبه منذ أن درس التمريض، ليس في قاموسه كسل، فهو النشيط في عمله، الذي لا ينسى أن يصبغه بالابتسامة الدائمة، وهو ممن لهم الفضل فترة الحصار على صعيد القطاع الصحي وديمومة نشاطه".
يواصل "أبو أحمد" عمله بعقد خبرة بعد تقاعده، ومع تحرير قريته عاد إليها، ويُداوم في مشفى "الأسد" الآن مُتابعاً عمله بكل حيويته التي عُرف بها رغم تجاوزه الستين عاماً.