عبر مجموعة من الشباب والصغار إناثاً وذكوراً، عادت "دير الزور" تنبضُ من جديد لسيد الفنون، عاد مسرحها للحياة وخشبته لضجيجها، تلك العودة أخذت شكلها، رغم قلة الإمكانيات، بل وندرتها، لتكون فرقةً من لحمٍ ودم، تُوجت باسمٍ من عمق تاريخ الفرات العتيق، فكانت "آزورا" -أحد أسماء "دير الزور" القديمة- "آزورا" أعادت ذاكرة الديريين لأيام مسرحهم في المركز الثقافي، الذي حوله الإرهاب رُكاماً.. بينما يقود تدريباتها -ويُواكبها مُخرجاً- ويكتب نصوص أعمالها اسمٌ عريق في عالم المسرح هو المخرج المُخضرم "ضرام سفّان".
وكانت "آزورا"
كان غياب المسرح في "دير الزور" قسرياً، فمع بدء الأحداث التي عاشتها بدا أن أشياء كثيرة ستغادرها، وكانت خشبة المسرح أولها، يستذكر المخرج المسرحي "ضرام سفّان" أمكنةً وشخوصاً ومعالم رحلت مُتحدثاً لـ" eSyria " بالقول: "كان المسرح ملجأنا بستارته الخمرية وكواليسه الدافئة، أمام بوابة المركز كان تمثال شاعرنا الكبير "محمد الفراتي" شامخاً، الأصدقاء القدامى، همهمات الجمهور، وموظفو المركز الثقافي حينها (تحسين، هشام، جهاد، أبو كمال..)، الممر الطويل الذي يقودك لصالة المعارض، من ثم بوابة المسرح الخشبية المهيبة، غرفة الكونترول الزجاجية، والمرحوم "صبحي" يُطل علينا من خلالها بابتسامته الطيبة مثل قبطان عجوز، كل هذا سقط فجأة مع أول طلقة".. كان المشهدُ رهيباً لعاشقي الفنون ومهووسيها، مؤلمٌ ما جرى".
يُتابع "السّفان": "فالخشبة احترقت، تمثال "الفراتي" وهو يتلو شعره سقط وحيداً، الأصدقاء تناثروا، كل هذا حدث وكأننا أمام عرض مسرحي مرعب، كل هذا حدث حيث تحولت الأرض إلى كرة ملتهبة، والسماء أيضاً، "دير الزور" مدينة بلا خشبة مسرح.. كنت خائفاً ومُحطماً، فكان أنْ حدث النزوح إلى الحسكة، ثم العودة للدير فالحصار، ثم "دمشق"، سبعُ سنوات وما من خشبة، ما من عرض يشفي غليل الروح المتعبة، حتى في ظل عدم وجود مناخٍ مناسب، وخشبة مناسبة، بإمكاني أن أقدمَ عرضاً في الغرفة، على الرصيف، في الشارع، أو تحت سقف بيت مُحطم، وسط كلِ هذا الخراب والدمار، استطعت أن أعثر على عائلتي الجديدة لتكون بحجم من مر من رجالاته (زهير الفراتي، صالح الشاهر، نواف حديدي، أحمد الحسين، بسام سفان، أيمن عبد القادر، مهيدي عبد القادر، عبد الحميد عزاوي، وغيرهم .....) ،بحثنا عن مسمى لهذا التجمع الأسري، فوجدنا ضالتنا في "آزورا" لما يحمله هذا الاسم من دفء وقيمة تناسب المنتوج الذي نسعى لطرحه، وتاريخ مدينة، والمدن لا تموت، فكانت "آزورا".
وجرت مياهها
جرى العملُ على قدمٍ وساق لعودة المسرح، وهنا لا بدّ من استقطاب عشاقه من صغارٍ وفتية وشباب، بالتوازي مع توفير المكان الذي سيحتضن هذه الانطلاقة كما يُشير مدير الثقافة "أحمد العلي": "استقر الخيار كمكان يحلّ بديلاً وإنْ كان مؤقتاً كمسرح، فجرى إعداده في المبنى العائد لمديرية التربية، صالة عرض كبيرة، وخشبة تعلوها بقليل، زودت بما يلزم من احتياجات ضمن المُستطاع، وكُلفَ المخرج "ضرام سفّان" بقيادة الفرقة وتشكيلها، تركز الاستقطاب على مجموعة من الشباب المثقف، لكنه العاشق والمُحب لهذا الفن، إلى جانب فتية وأطفال صغار من كلا الجنسين، وقد استطاع بخبرته وأناته العاشقة للمسرح تشكيل هذه الفرقة ممن يمتلكون الموهبة رغم أن الخبرة غير موجودة، لذا كان لا بدّ من التأسيس الصحيح وذلك لبناء شباب واع قادر على العودة بالمسرح لألقه القديم، فالمسرح في الدير له شكل ولون و"طعمة" وتاريخ، فقد مر عل كواليسه الكثير، ورغم تواضع إمكاناتنا المادية واللوجستية، غير أننا نستطيع القول: إنّ عربة المسرح في دير الزور وضِعت على سكتها".
ويلفت مدير المركز الثقافي "أحمد اليسّاوي" في حديثه لـ" eSyria " إلى أنّ المهمة لم تكن سهلة، لكن الإصرار عليها كان مُحفزاً للجميع: "تشكلت الفرقة من موهوبين شباب وفتية وصغار، حقيقة أسماء ستُخلد لما بذلوه وعلى رأسهم المُخرج "السّفان" الذي أبدع في صياغة جيل مسرحي مُتمكن وموهوب بكل ما للكلمة من معنى، لم يغب أحدٌ من فريق المسرح عن تدريباته يوماً، وبمختلف الفصول، وإذا ما تابعت ما قدموه من عروض وأداء مميز، ستجد نفسك أمام قامات كبيرة رغم صغر البعض وحداثة سن الآخر منهم، تدريباتهم تجري مساءً في مراعاة لظروفهم الدراسيّة، فمنهم التلاميذ ومنهم طلبة مدارس ومعاهد، ومنهم جامعيون، وإن لم تتوفر وسيلة النقل لجلبهم، تراهم يأتون ولو مشياً على الأقدام، مياه مسرحنا جرت".
مواهب
استطاعت الفرقة وباقتدار أن تُعيد لمسرح الدير ألقه رغم صعوبة الظروق، قرابة 30 شخصاً جاء عديدها، عروضٌ للأطفال وأخرى توعوية، و"اسكيتشات" خفيفة، بثت الحياة في شرايينه من جديد، بل باتت مقصد موهوبين كُثر وجدوا في العمل المسرحي ضالتهم، عن ذلك يُضيف "حسام العرب" -طالب هندسة الميكانيك وأحد ممثليها- بالقول: منذ زمن وأنا أبحث في "دير الزور" عن فرقة مسرحية، كنت شغوفاً بالتمثيل منذ صغري، كنت أقلد الشخصيات التي أصادفها، وجدت ضالتي في فرقة "آزورا" نحن الآن نعمل كعائلة واحدة، سعيد جداً بعائلتي الجديدة، وأفكر حالياً في تعميق ثقافتي المسرحيّة واكتساب الخبرات لدخول المعهد العالي للفنون المسرحية، شاركت في جميع الأعمال التي قدمتها الفرقة، سواء كممثل أو فني، فنحن هنا نتقاسم الأعمال لننهض بمنتوجنا معاً".
وتتابع "إيناس سفّان" عن تجربتها مع الفرقة: "عملت في بداياتي مع الجمعيات الأهلية والمنظمات الناشطة في المحافظة، وقدمت العديد من "الاسكيتشات"، أفخر بأني كأنثى من المؤسسات لهذه الفرقة مع العراب والأب الروحي "ضرام سفّان" (الوادي)، أطمح حالياً لأن أكون مخرجة وهذا ما أعمل لأجله فأنا أتدرب على ذلك، وقد قمت بإخراج بعض الأعمال ضمن فرقتنا "آزورا "، الخشبة صارت موطننا، يمكنك أن تقول ذلك، ونطمح لأن ننهض بالمسرح، نحن نعمل، نعمل فقط ، ولا وقت لدينا للالتفات للخلف".
"مهيار جمال كريم" مدرس اللغة العربية وأحد أعمدة التمثيل في الفرقة: "عملت مع "الوادي ضرام" قبل الأزمة وقدمت العديد من الأعمال، أهمها كانت مسرحيّة "مخمورة"، وحين عاد إلى "دير الزور" وقام بتأسيس الفرقة كنت سعيداً، فالمسرح رغم الحرب والدمار والخراب ما زال معلقاً على شجرة القلب، لم ولن يُغادرها، نحن كعائلة "آزورا" نعمل من أجل كسب ثقة الجمهور وتقديم المتعة والفائدة في آن، قدمنا العديد من الأعمال وما زال في جعبتنا الكثير، نحن نعمل باحترافية وضمن أجندة مدروسة، نعلم أننا ما زلنا في بداية الطريق لكن يكفينا شرفاً أننا عرفنا الطريق، نطمح دائماً للأفضل، وكما يقول "نيرودا" : أجمل الأشعار تلك التي لم تكتب بعد"!.
هذا وقدمت الفرقة الوليدة عدة أعمال مسرحيّة ومنها: "نورا المغرورة من أعمال خيال الظل، ولمة فرح، دبدوب الشرير، غابة السعادة.. وأعمال أخرى"، وتستعد حالياً لإطلاق عملها للكبار الذي يحمل عنوان "قهوة مُرّة"، وتضم في تشكيلتها كلاً من المواهب: "راضي الملا صالح، سراج سلطان، العباس العلو، شام الحمود، عمر شريدة، مصعب نقشبندي، عبدالله البربوري ، محمد بشار، روز المصطفى، عمر بسام العلي، علي النزال، جوني فياض، محمد بسام سفان، وآخرون".