جاوز "ياسين الكليزي" الستين من العمر، بينما لا تزال "الشاخولة" رفيقة دربه، ساحات الأعراس في محافظته "دير الزور" تعرفه، فعبرها تعرّف على هذه الآلة الموسيقيّة صغيراً، ثم تدرّبَ عليها ليكبر وتكبر معه ويتقن عزفها، فقد كان إحياء حفل عُرسٍ في الريف الديري وحتى مدنها، يُوكل لما كان يُسمى بـ"الشاعر"، و"الشاعر"هنا صاحب صوتٍ شجي وقدرة على العزف على"شاخولته"، ما بين المواويل التي تكون مديحاً لشخص أو قبيلة، مُترافقة مع العزف، ورغم كل ما طال آلات الموسيقا وحفلات الأعراس من تغييرات لا يزال للـ"الكليزي"حضوره المرغوب.
بدأ صغيراً
كان "ياسين الكليزي" ابن محافظة "ديرالزور"، في سنٍ صغيرة عندما شدته الأعراس في قريته "حطلة" التي انتقل إليها مع أهله قادماً من ريف "الحسكة"، أخذ كنيته التي لا يُعرف إلا بها من عشيرته "الكليزات"، وهي أحد أفخاذ قبيلة "البقارة "، وفي الأعراس الشعبيّة تعرف على آلة "الشاخولة "، وهي تُشابه في تركيبتها المزمار ، أو "الناي "، بدأ محاولات العزف في سن الرابعة عشرة، بعد أن جمع المال ليشتري "شاخولة "من "(خرجيته) "المدرسيّة التي كان أهله يعطونه إياها.
يستذكر "الكليزي "تلك اللحظات في حديثه لـ"eSyria ": "تستطيع أن تقول أن البدايات الفعليّة لإمساك "الشاخولة "كانت منتصف الصف السابع الإعدادي ( التعليم الأساسي ) ، بعد أن بقيت أراقب عازفي حفلات الأعراس في قريتي ، كان السائد فترة السبعينيات أن يُحيي عازفوها أي عرسٍ للأهالي، ولكون مناطقنا تشتهر بالزراعة ، فإنّ مواسم حصاد القمح جاءت كفرصة أيضاً لعرض صوتي ، وحينما أرعى الأغنام كنت أجد الفرصة المناسبة مع الأصدقاء ممن هم في مثل سني ، تلك الأيام كانت بسيطة ، وبقدر ذلك كانت جميلة ، كثيراً ما كنت أعزف لهم ، وأغني أيضاً "المواويل "من التراث الفراتي ، قيل لي أنّ صوتي جميلٌ وعذب ، لم أكمل تعليمي ، لكنّي أكملت التدريب على العزف حتى أتقنته ، لأرافق عازفي الآلة المذكورة في الأرياف ، ولأول مرة في العام 1979 ، أتيحت لي الفرصة أن أغني مع أحدهم في عرس ، يُطلق على من يعزف بهذه الآلة الموسيقيّة حينها"الشاعر "، وما كان في مُخيلتي أن أحمل هذا اللقب الشعبي يوماً ، توالت السنون لأصبح معها أحد هؤلاء "الشّعار "، وبذلك دخلتُ هذا العالم".
العازف المُتنقل
كان "الكليزي "حريصاً على حفظ أغاني الأعراس الشعبيّة لبيئة المجتمع الفراتي ، من "الموليّا "، و"العايل "وغيرها من أغانٍ تحفظها الذاكرة ، ويُضيف: "حرصت على حفظ الأغاني ، سواء منها الطربيّة ، أو لغرض الدبكة، كنت لا أغيب عن الأعراس ، بل وحتى الاحتفالات الوطنيَّة ، زرت الكثير من المحافظات ، فلم يقتصر عملي على محافظتي ، بل كانت لي مواعيد في محافظات "درعا ، والقنيطرة ، وتجمعات نازحي الجولان بدمشق"، ناهيك عن أرياف"حمص وحلب وحماة"، والأمر كذلك في"الحسكة والرقة"، أثناء الحفل يصطف الرجال والنساء للدبكة ، لأبدأ معها العزف ، المترافق والمواويل ، تواكبها التحيات ، هي عادات وتقاليد متوارثة تحكم مُجتمعاتنا ، ربما هي تُشابه حالات العازفين في شوارع دول أجنبيّة".
ويتابع العازف بالقول: "تطورات الحياة وأدواتها طالت الفن وموسيقاه ، بات عملنا نادراً ، والجيل الجديد يلجأ في الحفلات لمطربين وفرق موسيقيّة ، يبقى الكبار هم الحريصون على وجودنا ، لذا فنحن مستمرون ، كذلك هناك شباب في مجتمعنا لا يحلوا لهم إلا عزف "الشاخولة "، للناس أذواقها ، وكما هناك من لا يستهويه التراث القديم على صعيد الفن غناءً وموسيقا ، كذلك هناك من يعشق هكذا تراث بكله ، محافظات عدة تُشابه"دير الزور"وعموم الشرق والشمال الشرقي السوري لا يزال لهذه الآلة حضورها ، ولا تزال الأعراس لا تُقام إلا بها ، يسمونها "المجوز " ورغم بلوغي الستين من العمر ، إلا أنني أعيش متعتي بالعزف والغناء كما لو كنت أعيش بداياته ، شيء عشقته منذ الصغر وشغفت به وما أزال ، ولعل ما يسعدني أكثر في حفلات وأعراس الناس عندنا ، سماعي بشكل دائم قولهم : ( جيبونا"الكليزي"، فهو يعبي الراس بنغماته وصوته الشجي .. يداوي أوجاعنا بقدر ما يبهجنا في أفراحنا ) .
ويختم ضاحكاً : "حملي خفيف ، لا أحتاج فرقة موسيقيّة ، ولا آلات الزمن الراهن ، فقط"شاخولتي"معي ، ولباس عربي من "كلابية "، و "الشماغ والعكال "، هكذا كنت ، وما أزال ، فترة نزوحي إلى"دمشق"نتيجة سيطرة الإرهاب على منطقتي ، كثيراً ما عزفت لمن أصادفهم من أبناء"دير الزور أو الرقة أو الحسكة"هناك ، فهم يعرفونني ، ولو جرى ذلك على ناصية مقهى".
"الشاخولة".. فراتيّة
يرى الباحث في التراث "غسان رمضان "أنّ العزف على تلك الآلة الموسيقيّة يقتصر على منطقتي الفرات والجزيرة ، بمحافظاتها الثلاث ، تجدها أيضاً في أرياف"حلب أو حماة": "في الغالب من يعزف عليها ، هو أيضاً يؤدي وصلات غنائية، تغلب عليها "المواويل "، فتكون طبقة صوته عاليّة ، وممن أجاد الغناء عليها سابقاً المطرب الراحل "محمد الهزاع "، ومن العازفين "سليمان الخشم ، وآخر اشتهر باسم "منسي "، أما بالنسبة للفنان "ياسين الكليزي "فهو لا يزال مواظباً على العزف عليها ، بالتوازي وأدائه الغناء ، يمتلك طبقة صوت جميلة ، ولديه معرفة بالألوان الفراتيّة، وخامته كما يُقال عذبة ، وتحمل "بحة "الغناء الفراتي ، ظلت هذه الآلة وحتى من يعزفها كمهنة خارج دائرة الاهتمام ، وكمن يُكرم بعد وفاته من كبار الفنانين ، أو الأدباء والشعراء وسواهم ، لا يظهر هؤلاء على الإعلام ، إلا إن كان هنالك حديث عن الألوان الغنائية للمنطقة ، أو الآلات الموسيقيّة القديمة ، أو التي باتت نادرة ، وكأنما هناك من يزدري هكذا فن ، نعترف بأن ثمة تقصير على كافة المستويات بالتعريف بهم كشخوص فنيّة ليسوا بأقل أهمية عمن سواهم على هذا الصعيد ، فالغناء الشعبي وآلات عزفه يُعبران عن هوية المنطقة ، تراث ينبغي الحفاظ عليه ، وهذا ديدن المجتمعات الإنسانيّة".
فيما يصف العازف في فرقة الفرات الموسيقيّة"بسام الجاسم "مغنّي وعازفي هذا اللون بآخر أيام الزمن الجميل ، حيث البساطة والمحبة ، فالناس تجتمع مع حضورهم لتسمع ألوان"العتابا"و "المواويل "، هم من الزمن الذي كان يجمع الفقير والغني ، بل وكافة طبقات المجتمع ، تعليمياً وثقافياً.. مؤسف أنّ هذه الآلة باتت تختفي ، كانت هناك مساعٍ لإدخالها مع الآلات الأخرى بالعزف ، ما أعلمه هو أنّ"الكليزي"يكاد العازف الوحيد الذي يُتقنها ، إن لم يخب ظني ، بل أجزم بأنه لم يبقَ سواه ، وهو بارع بهذا الفن ، ويمتلك حنجرة جميلة ، هذه الآلة تحتاح تدريباً عليها ، ولمن لا يعرفها أقول : "هي آلة مصنوعة من القصب ، لها ثقوب ستة ، لتعطي درجات سلم موسيقي أو مقام موسيقي شعبي أي أنها تُعطي مقاماً واحداً ونغمةً واحدة، تمتاز هذه الآلة بخصوصية شكلها وصوتها وطريقة العزف والغناء معها ، ما يراد من العازف فقط نَفَساً قوياً وعميقاً لأنها تحتاجُ إلى استمرارية في نفخ الهواء دون انقطاع ، لا تحلو الدبكات والأعراس إلا معها ، هنا يبقى العازف والمُغني الشعبي "ياسين الكليزي "كآخر نغمة من ذاك الزمن الجميل ، إن صح التعبير".
هذا ولا يزال عازف "الشاخولة" بسنيّه الستين يحملها معه في كل مكان ، بها يصنع الفرح والبهجة في ربوع المناطق التي يحلُ بها ، فيما تكثر تسجيلات عزفه في "فيديوهات "، باتت ملجأ حنين من غادر من أبناء الشرق السوري خارجاً لبلداتهم وقراهم ، عبرها يُفرغون هذا الحنين للفرات ، بمياهه ، بأشجار الغرب والحور وحكايا العجائز".