اشتهرت مدينة "حلب" ومنذ القدم بكثرة المقاهي المنتشرة في شوارعها الرئيسية، ولعل ما بين الماضي زمن كراسي القش وشرب النرجيلة ولعب الطاولة، وبين الحاضر وما فيه من السرعة والنت ومشاهدات المباريات، تغيرت الكثير من الملامح سواء في الترتيبات الداخلية بالموقع والديكور والضيافات والكراسي والطاولات، وصولاً إلى الغاية من ارتياد المقهى للزبون نفسه.
شارع "بارون"
منذ حقبة الخمسينيات من القرن الماضي انتشرت العديد من المقاهي الحلبية في الشارع الرئيسي "بارون" المتاخم للفندق الذي يحمل الاسم نفسه، ويقال إن مقاهي مدينة "حلب" سبقت بالتأسيس مقاهي "روما وباريس ولندن"،
وتميزت تلك المقاهي باستقطابها لكبار العوائل الحلبية والأسماء الوطنية والفنانين والأدباء والأطباء والعديد من النخب المثقفة والسياسية والعلمية، وبعض تلك المقاهي كان للراحة والاستجمام وتناول المشروبات الساخنة والباردة ولعب الورق والطاولة وشرب والنرجيلة، وكانت محطة للوافدين من طريق الحرير، فيما كان بعضها الآخر ملتقى للحوارات الأدبية والثقافية والعلمية.
ومن أهم مقاهي شارع بارون (القصر وبارون والموعد والبرازيل والربيع والساحل والأكراد)، ويمتاز الحلبيون بصفة خاصة أن لكل واحد منهم مقهاه الخاص الذي يرتاده ويرتاح فيه ويكون متأقلماً مع طباعه وخصائصه الاجتماعية والنفسية وهواياته، ومن تلك المقاهي خرج كبار الفنانين مثل التشكيلي "لؤي كيالي والشاعر عمر ابو ريشة والأديب عبد الله يوركي حلاق والشاعر أحمد دوغان" وغيرهم كثر.
تقليد قديم
تمتاز المقاهي الحلبية باختيار موقعها على زاويتين بحيث يرى الجالس بداخلها حركة المارين بالشوارع وبائعي الصحف واليانصيب والعطورات وماسحي الأحذية.
وثمة العديد من المقاهي التي لا تزال تحتفظ ببعض من رونقها القديم ومنها "مقهى الساحل" والذي يقع في "حي باب جنين"، هذا المقهى الذي لازال يحتفظ بالكثير في خدماته وشكله من العادات القديمة في الاستقبال والضيافة والمظهر العام في كراسيه وطاولاته، وعن ذلك تحدث تاجر المدينة "مصطفى عاصي" /60/ عاماً وهو أحد الزبائن المداومين للمقهى بشكل يومي: "منذ شبابي وأنا ارتاد المقاهي من دون انقطاع وبشكل شبه يومي، وحضوري يكون غالباً في المساء بعد انصرافي من محل عملي بسوق المدينة.. هنا يجتمع الأصدقاء والمعارف للاستراحة وتناول القهوة والشاي الخمير ولعب الطاولة وشرب النرجيلة وسماع قصة الحكواتي أيام زمان وخصوصاً في شهر رمضان، ويتبادل الجميع فيما بينهم الأحاديث العامة والمسلية، ويتفقدون بعضهم البعض، وللمقاهي الحلبية القديمة نكهة وميزة خاصة، وهي تعد بمثابة المتنفس الروحي لهم من عناء العمل اليومي، وسابقاً اشتهر مقهى الربيع القريب من "جامع الملخانة" بكثرة رواده وازدحامه من جميع طبقات وفئات المجتمع، وهناك أيضاً مقهى "العطار" تحت القلعة، ومقاهي "الخواسكي والنجمة والأكراد" لصاحبه "أبو صطيف قضيب البان".
ويشير "العاصي" إلى أن كل طلبات الزبون في ذلك الوقت من شاي وقهوة ولعب طاولة وشرب نرجيلة لم تكن تتجاوز قيمتها ربع ليرة، وأحياناً يتم الدفع لكافة الطاولات من دون علم الزبائن من أحد الميسورين أثناء مغادرته، وتدور في المقهى وبين الجميع أحاديث اقتصادية ويوميات سوق المدينة في البيع والشراء وسوق الذهب والحبال والعبي، وما يميز تلك المقاهي القديمة أن كل الزبائن تعرف بعضها البعض، وفي حال انقطاع زبون يتم السؤال عن سبب غيابه وزيارته في منزله إن كان مريضاً أو بحاجة لمساعدة مادية أم معنوية.
ويوضح التاجر أن مقاهي "باب جنين" مختلفة عن مقاهي شارع بارون والحديثة، وهنا لازال شكل المقهى يحتفظ بكثير من ترتيباته القديمة ولم يطرأ عليها تعديلات كثيرة، والجلوس يكون على كراسي القش والخيزران وطاولات الحديد، والإنارة صفراء والتلفاز الأسود والأبيض ثم تطور للملون والراديو القديم وسماع أغان "أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم وليلى مراد وفريد الأطرش وصالح عبد الحي وكارم محمود"، والاهتمام بالمقهى يكون منصباً على لعب الطاولة والورق وتناول المشروبات الثقيلة.
تطور وحداثة
يتحدث "عاصي" عن الاختلافات بين مقاهي أيام زمان والمقاهي الحالية، فمقاهي "شارع بارون" حسب وصفه، كانت ولازالت بمثابة منتديات قوية ومؤثرة تجمع المثقفين والأدباء والفنانين والنخب العلمية. وتم تخصيص قهوة "الموعد" المتاخمة "للفندق السياحي" للعب الشطرنج ومنها تخرج معظم لاعبي الأندية والمنتخبات الوطنية، ويجري في مقاهي شارع بارون الكثير من النقاشات والحوارات، ويكتب فيها الشعر وقراءة الكتب، ويسمح لبائعي الصحف واليانصيب والعطورات بالدخول والدوان على الطاولات للبيع.
مقاهي "موديرن"
بفعل عامل الزمن تبدل وتطور شكل المقهى ما بين القديمة والحديثة التي نهض الكثير منها في الآونة الأخيرة في شارع العمران بحي "الموكامبو"، وأهم ما يميز تلك المقاهي هي ارتياد طلاب وطالبات الجامعة بشكل كثيف وسماع الأغاني الحديثة المودرن حصراً، وعن تلك الميزات تقول مسؤولة الإعلام بمقهى "تريند كافيه" "دانيا أبو راس": "المقاهي الحديثة مختلفة عن القديمة بكثير من الأمور منها ديكورات الألمنيوم الحديثة والزجاج المفيم والإنارة والنت المفتوح وشكل الطاولات من البلور مع الكراسي، ووضع شاشة تلفاز عملاقة تعرض عليها المباريات والمسلسلات وحتى الضيافة والمشاريب، بتنا نقدم الشاي البارد والميلو وثلاثة بواحد والنرجيلة، وأصبح المقهى مكاناً مناسباً لتنظيم أعياد الميلاد ورأس السنة والحفلات الخاصة، وتنفيذ برامج للمسابقات والجوائز وتقديم وجبات وسندويش الجبنة والمرتديلا والعشاء الخفيف، وأيضاً للمقاهي الحديثة نكهتها ورونقها الخاص بها، فهي تشتعل بالحماسة أثناء عرض البرامج الترفيهية ومباريات المنتخبات والدوريات العالمية".
وتختم بالقول: "نحرص على إرضاء الزبائن وملاطفتهم، وغير مسموح لعب الطاولة والورق إلا بإذن من إدارة المقهى ولزمن قصير محدود".
أما صاحب مقهى "أندبلاس" "عمر اليغين" يقول: يوجد في "حي العمران " أكثر من أربعة مقاهي حديثة متلاصقة تعج بالرواد من طلاب الجامعة والمثقفين، وأغلب زبائننا من الفنانين ولاعبي كرة القدم والسلة والرياضيين الذي يطلبون التحضير والمشاهدة لفعالية أو مباراة مهمة على شاشة عملاقة، ونقدم لهم خدمة النت والحلويات والكاتو والعصير والشاي الساخن والبارد والنرجيلة، ولاتنفض تلك المقاهي حتى ساعة متأخرة ليلاً، وأغلب الحاضرين يتمتعون بالأناقة والشياكة".
تم إجراء اللقاءات والحوارات والتصوير بتاريخ الخامس والسادس من شهر أيار ما بين مقاهي "باب جنين" و"مقاهي شارع العمران بالموكامبو".