في الجزء الغربي من سوق "حمص" المسقوف وسط المدينة القديمة، تنتشر آخر محال بيع العباءات وملابس الشتاء والقطع الصوفية بمختلف أحجامها، لتكون تجمّعاً لممارسي مهنة تقترب من الاندثار.
لباس وزينة
يجلس محمد الحموي «أبو عمار» أمام محله، وهو من القلة الباقية على ممارسة مهنة ورثها عن أبيه، متحدثاً عن تاريخ هذه المهنة التراثية التي تقاوم الاندثار بالقول: "الفرواتية تعني صناعة الفرو الطبيعي، وهي من أقدم المهن وتحتاج الكثير من الصبر والإتقان، وهي مهنة يدوية قديمة يتلخص عملها الأساسي بتحويل جلد الخراف إلى لباس شعبي تسمى "العباية" و"النصية"، بعد أن تخضع تلك الجلود لمراحل تصنيعية عدة حتى تصبح جاهزة للحياكة والاستخدام للوقاية من البرد".
وعن مجالات استخدامها، يشير «أبو عمار» إلى أن "البعض يستخدمها على سبيل الزينة أو لفرشها في أرضيات المنازل، في الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن جلود الخراف المعالجة، تمنح طاقة إيجابية حين يتم تعليقها على جدران المنزل".
صراع البقاء
يتفق آخر ممارسي هذه الصنعة على أن مهنة الفرواتي آخذة بالاندثار مع التقدم التكنولوجي المستمر في الحياة، بالإضافة إلى المصاعب التي تواجه العمل، ناهيك عن توجه الغالبية العظمى من الشباب نحو الأعمال التجارية الحديثة.
وهذا ما يؤكد عليه «أبو عمار» بقوله: "مهنة الفرواتي شارفت على الاندثار نتيجة تراجع عدد حرفييها، ودخول الفرو الصناعي كمنافس قوي يلبي رغبة الكثير من الزبائن"، مضيفاً: أسعار الفرو تكون حسب الحجم وجودة الصوف، فتبدأ من 100 ألف إلى 500 ألف ليرة سورية للفروة الواحدة، وحقيقة الأمر أن الإقبال تراجع بشكل كبير نتيجة الظروف المعيشية الصعبة التي يعانيها الكثيرون.
ويتحدث الرجل الستيني للمدونة عن تاريخ عمله بهذه المهنة: "بدأت بها منذ أن كنت في عمر 12 عاماً، حتى أصبحت بعمر 62، فلم أعرف مهنة غيرها ولا أرغب باستبدالها".
ويبين أن السوق كان يعج بالتجار وأصحاب هذه المهنة، إلا أن معظمهم رحلوا إما بسبب الوفاة أو الهجرة أو من وجد في مهنٍ أخرى مردوداً أفضل وتكلفة أقل، ما جعل هذه الصنعة مهددة بالاندثار" ونشكو حالياً من ضعف الحركة التجارية وتراجعها بشكل كبير مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وتراجع القوة المالية للغالبية العظمى".
خصوصية العمل
يعدد «أبو عمار» مراحل عمل صناعة الفرو، بدءاً من وصول الصوف وحتى الانتهاء من معالجته، قائلاً: "يأتينا الجلد كما هو مع الدم بعد سلخ الخروف، لنقوم بغسله ومن ثم وضع الملح و"الشبّة" عليه وتجفيفه وبشره وتمشيطه، وبعد تجميع القطع التي تعرضت للمعالجة ولأشعة الشمس، تبدأ مرحلة الحياكة لتتحول إلى العباءة العادية، التي تغطي كامل الجسد ما عدا الرأس، أو ما يعرف «النصية»، أي نصف جسم الرجل".
ولا تخلو أي مهنة من صعوبات تقف في وجه العاملين بها كما يؤكد «أبو عمار» وتتمثل بدخول ومنافسة الفرو الصناعي وقلة الكهرباء، إلا أنه لا يمكن مقارنة دفء الفروة الصناعية بالطبيعة وهو ما يظهر واضحاً من خلال ارتداء رعاة الأغنام للفرو خلال أوقات البرد القارس.
ويعود الفرواتي للتركيز على مشكلة الكهرباء، فهي كما يقول تعد عاملاً أساسياً في العمل، إلا أن تراجع التغذية الكهربائية دفعني لتركيب لوح طاقة شمسية كي أرى أمامي بالدرجة الأولى، وهنا نطلب من المعنيين إيلاء السوق اهتماماً أكبر، من حيث تأمين المياه وخطوط الهاتف الأرضية، لأنها أسباب تمنع الكثير من المحال أن تعيد فتح أبوابها كما كانت في السابق".
صديق الشتاء
يؤكد «أبو عمار» أن: "سفر البعض لمسافات طويلة من أجل شراء الفرو الطبيعي ليس مستغرباً، فالفرو الطبيعي لا يقارن بالصناعي من حيث الدفء الذي يمنحه لمرتديه، حيث يحولها البعض إلى قطع تزيين في الغرف السكنية أو المكتبية أو الأماكن المغلقة، لما تمنحه من إحساس بالدفء، كما وتعد هذه المهنة صديقة فصل الشتاء، لأن الفرو الطبيعي يعطي شعوراً بالدفء لا يميزه إلا من لبس منه، ولهذا السبب نلاحظ ارتداءه من قبل رعاة الأغنام في المناطق الباردة.
حفظ التراث
يتحدث "خالد الخياري" لمدونة "وطن"، وهو أحد محبي جمع التراثيات في حمص، عن أهمية الحفاظ على المهن التراثية، لأنها تعد كنزاً ثقافياً حقيقياً وموروثاً يحكي التاريخ مهما تقدمت بنا السنين.
ويقول "الخياري" إن ممارسي المهن التاريخية باتوا قليلين جداً، ولا يقتصر الأمر على الفرواتية ممن يعدون على أصابع اليد في سوق "حمص"، بعد أن كانت محلاتهم تملأ الشوارع وحركة البيع والعمل لا تتوقف أبداً".
ويضيف: "التراث يتعرض للنسيان تدريجياً مع التقدم التكنولوجي، وأحاول الحفاظ عليه قدر الإمكان، حيث احتفظت بكل ما استطعت جمعه في خلال عشرين عاماً، من كل ما يتعلق بالحرف التراثية وشكلت متحفي الخاص الذي بات مقصداً لكل محب للتراثيات بأصنافها المختلفة".
بدوره، حافظ "أبو عبدو" على عمله التراثي في مهنة التنجيد العربي ضمن السوق المسقوف لما يقارب خمسين عاماً، محافظاً على أسرار وأصول المهنة بالكثير من الصبر والإخلاص والتفاني في العمل لكسب الرزق الحلال.
ولا يخفي "أبو عبدو" عند سؤاله عن مهنة الفرواتية، حزنه على تراجع ممارسي هذه المهنة كما مهنته بطبيعة الحال، حتى تكاد تندثر، مضيفاً: إن للتقدم التكنولوجي دوراً كبيراً بتراجع المهن التقليدية والتراثية، حتى إن أولادنا لا يقبلون تعلمها كما تعلمناها في ريعان شبابنا، وقد يكون هذا بالأمر الطبيعي، لكن اندثار الحرف اليدوية والمهن التراثية يعد أمراً محزناً لأن التاريخ هو أصل الحاضر والمستقبل، وبالتالي يجب الحفاظ عليه.