يعد الدكتور الراحل "محمد طه الجاسر" واحداً من أهم أطباء علم التخدير والإنعاش والعناية المركزة في "سورية" وفي المنطقة، حيث تميز وبرع كثيراً في اختصاصه، وقدم العديد من الأبحاث الحديثة وشارك وحضر كبرى المؤتمرات الدولية في هذا الاختصاص، ووضع خبرته الطبية في خدمة المشافي العامة والخاصة، مع تدريس المادة لطلبة الطب والمعهد الطبي في "جامعة حلب"، وله عدة مؤلفات جامعية بعلم التخدير والإنعاش، كما أشرف على كم كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه في علم التخدير، وكان أحد مؤسسي الجمعية السورية لمكافحة السرطان بمدينة "حلب" والتي تسلم رئاستها، وكذلك مشفى الجمعية بشارع النيل، وللراحل الكثير من الميول الأدبية والثقافية والفنية.
الطب في "اسطنبول"
للوقوف أكثر على تفاصيل السيرة العلمية للدكتور الراحل، زار موقع مدونة وطن "eSyria" منزله في "حي الشهباء الجديدة" بمدينة "حلب" والتقى ابنه الدكتور "محمد سائد الجاسر" الذي تحدث للمدونة عن والده بالقول: «الدكتور "طه" من مواليد عام 1928 في "حي المغازلة" بمدينة "حلب" لأب يعمل بالتجارة، توفي والده أثناء دراسته المرحلة الابتدائية، وكان متفوقاً في دروسه، وأمام واقعه الجديد هجر المدرسة والتحق بوظيفة عمل في مالية "حلب" وعهد إليه مهمة إحصاء عدد الحاضرين في كراسي السينمات لتقدير الضريبة المترتبة لقاء ذلك لصالح المالية، وسرعان ما عاد لمتابعة تحصيله العلمي بدروس ليلية حتى حصوله على شهادة الإعدادية ومن بعدها الثانوية بتفوق، وكان ذلك في عام 1950، حيث أتيحت له بعدها فرصة للسفر إلى مدينة "أنقرة" لدارسة الطب ومن بعدها نحو "اسطنبول" لمتابعة الدارسة بكلية "جراح باشا" الطبية، وتخرج منها عام 1956، ويعود بعدها لمسقط رأسه في مدينة "حلب" ويعين في وزارة الصحة طبيباً عاماً في منطقة "حارم" لمدة عامين، ومن بعدها انتقل إلى المشفى الوطني في "حلب"، ونتيجة تفوقه حصل على منحة من منظمة الصحة العالمية لدراسة اختصاص التخدير في "الدانمارك- كوبنهاغن" في عام 1962، وعند العودة جرى تعيينه رئيساً لشعبة التخدير في "مشفى الرازي" ومن بعدها مديراً لمدرسة التمريض بالجامعة، بالتزامن مع افتتاح عيادته الخاصة في "حي المغازلة"».
الدكتور "طه الجاسر" رحمه الله كان قامة علمية ووطنية أكاديمية على مدى أربعة عقود، وبذل كل ما بوسعه لتعليم طلاب كلية الطب ومساعدتهم، لقد كان مثالاً في الخلق والرقي والتواضع وكان من مؤسسي كلية الطب في "جامعة حلب" بل هو أحد أعمدتها الأساسية، وأستاذاً وباحثاً علمياً من الطراز الأول
ويضيف "الجاسر": «خلال تلك الفترة ألف أول كتاب باللغة العربية عن مبادئ علم التخدير، وسافر إلى "مصر" وقدم دراسة في مؤتمر عام دولي عن التخدير لاقى إعجاب "البروفسور روبرت ماكنتوش" رئيس قسم التخدير في "جامعة أوكسفورد"، والذي عرض عليه منحة لإجراء دراسات عليا بالتخدير والحصول على لقب زمالة كلية المخدرين في "لندن" وكان ذلك في عام 1970، ومع عودته تم تعيينه رئيساً لقسم التخدير في "جامعة حلب" ومدرساً بالمعهد الطبي وأستاذاً في معهد التراث العلمي، وظل في منصبه التعليمي والإداري حتى تقاعده في عام 2004».
الطبيب الأديب
للدكتور الراحل "طه الجاسر" ثلاثة مؤلفات مطورة ومحدثة عن علم التخدير درّست بالجامعات السورية، وله كتاب "يوميات طبيب بالريف"، ومؤلف كتاب اسمه "ميدان الصراع بين الشرق والغرب"، فضلاً عن العديد من المقالات والأبحاث المنشورة في المجلات الطبية وباللغتين العربية والانكليزية، وله مشاركات فاعلة في أغلب المؤتمرات المحلية والعربية والدولية عن علم التخدير على مدار أكثر من نصف قرن، وأشرف على عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه في اختصاصي التخدير والإنعاش ومعهد التراث.
وفضلاً عن تميزه العلمي، يشرح ابنه الدكتور "سائد" في حديثه لمدونة وطن "eSyria" كيف كان والده الراحل مولعاً بقراءة الأدب العربي والعالمي، ويحفظ الكثير من الشعر العربي القديم والحديث، وله ميول بالفن التشكيلي والمسرحي والغنائي، وهو أحد مؤسسي "نادي شباب العروبة" مع الدكتور الراحل "زهير أمير براق وفاروق نور الدين" وغيرهم، وله علاقات وثيقة مع أبناء مدينته وجيرانه وحارته وزملائه وطلابه الذين اتسمت معاملته لهم باللطف وحسن الخلق.
ويشير إلى أن والده كان يرفض تقاضي الأجور من الفقراء لا بل يقدم لهم الدواء مجاناً ويسهل أمورهم في إجراء العمليات الجراحية ويطمئن عليهم حتى تماثلهم للشفاء، ويمارس رياضة المشي يومياً للحفاظ على صحته ورشاقته.
ويختم بالقول: «والدي هو أول طبيب تخدير مؤهل تأهيلاً عالياً على مستوى "سورية" وأول من ألف كتاباً في علم التخدير والإنعاش على مستوى العالم العربي، وهو أول مؤسس للعناية المركزة بمشفى الجامعة في عام 1975 لتكون أول عناية متطورة على مستوى "سورية"، وشغل منصب رئيس قسم التخدير بالجامعة، وكان رئيساً لرابطة المخدرين في "سورية" وأستاذاً في معهد التراث العلمي، كما شغل منصب أمين سر نقابة أطباء "حلب" بالستينيات، ورئيس البورد العربي للتخدير لدورتين أواخر القرن الماضي».
شهادات طبية
الدكتور الجراح "حسن كيالي" يقول: «الدكتور "طه الجاسر" واحدٌ من أهم القامات العلمية والطبية المحلية والعربية وحتى العالمية في اختصاصه الذي طوره كثيراً من خلال متابعته لكافة المؤتمرات والأبحاث والندوات، أعطى كل وقته وحياته لأبنائه وطلبته في سبيل رفعة العلم وخدمة الناس والمرضى.. التقيته كثيراً في كلية الطب والمشافي العامة والخاصة، هو مبدع ومتفانٍ في مهامه لا يتوانَ عن متابعة مرضاه حتى تماثلهم للشفاء، وقد كان محبوباً من جميع طلابه وزملائه وطلابه».
بدوره يصف الدكتور "عامر كسراوي" الراحل بالمعلم والأب لجميع الطلاب، وكيف كانت محاضراته ممتعة وكان يرويها كقصة جميلة يتشوق الجميع لسماعها.
ويضيف: «كان محبوباً ومتواضعاً يحدثنا عن المستقبل وضرورة مواصلة البحث عن العلم حتى بعد التخرج، وأذكر حادثة نزوله في أحد المشافي ليلاً وهو بلباس النوم للاطمئنان على صحة مريض وبقي عنده حتى الصباح وتماثله للشفاء، لقد أعطى كل وقته لمرضاه وطلابه، ويعتبر أحد أهم قامات التخدير، خرّج أجيالاً كثيرة وأشرف على رسائلهم».
الدكتور "حسن كنجو" يقول: «الدكتور "طه الجاسر" رحمه الله كان قامة علمية ووطنية أكاديمية على مدى أربعة عقود، وبذل كل ما بوسعه لتعليم طلاب كلية الطب ومساعدتهم، لقد كان مثالاً في الخلق والرقي والتواضع وكان من مؤسسي كلية الطب في "جامعة حلب" بل هو أحد أعمدتها الأساسية، وأستاذاً وباحثاً علمياً من الطراز الأول».
تبقى الإشارة إلى أن الطبيب الراحل له خمسة أبناء أطباء، وقد توفي عن عمر ناهز الواحد والتسعين عاماً بعد مسيرة عامرة بالعطاء والعلم ومحبة الناس.
تم إجراء اللقاء والتصوير بتاريخ الواحد من شهر آب لعام ألفين وثلاثة وعشرين في منزل الراحل في "حي الشهباء الجديدة".