يعتبر سوق "باب إنطاكية" الواقع على السور الغربي الأثري لمدينة "حلب"، واحداً من أهم أسواق المدينة القديمة، حيث ينفرد عن باقي الأسواق الأخرى بكثير من المزايا المتنوعة، منها التاريخية والسياحية والصناعية والتجارية معاً، في وسط السوق تنتشر المحلات المتخصصة ببيع مواد البناء من الصحية والخلاطات والبورسلان والسيراميك والقرميد والإسمنت، مع محلات خاصة بحفر لوحات التدشين للمشاريع الحديثة وشواهد القبور.
موقع متميز
يعد السوق قبلة تجار البناء الحلبيين للشراء بالجملة والمفرق، مع تهافت أبناء الريف والمدن المجاورة للتسوق منه لما يحتويه من مستلزمات البناء من إنتاج الصناعات الوطنية والمستوردة. ويكتمل مشهد السوق بعادة قديمة متجددة وهي تجمع عمال "باب إنطاكية" صباح كل يوم على دوار السوق لطلب العمل.
يقع سوق "باب إنطاكية" حالياً في منتصف المدينة، وسابقاً وقبل التوسع العمراني كان واقعاً على السور الغربي للمدينة، ومنذ القدم وحتى الآن لا يزال مكتظاً بحركة الزبائن مع الشاحنات الثقيلة الواصلة والمغادرة منه وهي محملة بالبضائع.
يحد السوق من الجنوب "حي الكلاسة" وجامع "جمال عبد الناصر"، ومن الشمال تحده أسواق "باب العتمة وجنين" ومن الغرب أحياء "المشارقة وبستان القصر" ومن الشرق الجامع الكبير وطلعة السبع بحرات.
سوق عتيق
يندهش المرء عندما يتجول داخل "سوق باب إنطاكية"، وبحالة لاشعورية وإرادية يسرقه النظر إلى قدم وعراقة السوق الذي بني وسط الآثار والأحجار السوداء المرصوفة في واجهة المحلات والخانات والتي تدل على عظمة ومكانة وأهمية الحي والسوق معاً.
يتحدث الحاج "أحمد حايك" /72/ عاماً والذي يعد من أقدم تجار "سوق باب إنطاكية" ببيع الأدوات الصحية، عن نشأة السوق بالقول: نهضة "سوق باب إنطاكية" كانت في العهد العثماني، ويعود تاريخ تأسيسه لحقبة العهد الروماني، وهو من الأسواق التجارية القديمة والمهمة بالمدينة، فأغلب المحلات أصلها خانات حجرية كبيرة من اللبن المرصوف الذي كان ينقل من المقالع الحجرية بواسطة الجمال إلى هنا ولأجل البناء، وكان يطلق عليه اسم سوق الحجر أو سوق القصور.. محلنا هذا أصله خان كبير قبل أن يقطع ويجزأ، واشتراه والدي بمئة ليرة مجيدية في عام 1905، فوالدي في البدء كان يمتهن صنعة الحدادة الإفرنجية، ومع مطلع الثمانينيات ومع بدء النهضة العمرانية لمدينة "حلب" وحاجة التجار لمواد البناء، ازداد عدد المحلات داخل السوق ووصل إلى ما يقارب المئة وخمسين محلاً لبيع المواد الصحية من جميع الأنواع، من البورسلان والسيراميك وخلاطات المياه الإفرنجية والمغاسل، وكانت أغلب البضائع محلية الصنع حينها.
يستعيد الحاج "حايك" ذكرياته في السوق، وكيف كان يرافق والده للمحل وهو في مقتبل العمر، إلى أن تعلم منه أصول البيع والشراء، ومع عمله تابع تعليمه ودراسته الجامعية ونال شهادته في الأدب العربي، وبعد وفاة والده استلم إدارة المحل وحافظ على حسن التعامل مع الزبائن.
ويضيف: "سابقاً كان الزبائن معتادين على تجهيز مطابخهم وحماماتهم من الحجر المجلي والمشطوف، فلم يتقبلوا كثيراً فكرة تجهيز مطابخ منازلهم من السيراميك والبورسلان بسهولة، ومع غلاء المواد القديمة وندرتها كان لابد لهم الانصياع وشراء المواد الحديثة الدارجة بالسوق من السيراميك والبورسلان".
حديث التجار
من جهته يتحدث التاجر "محمود بركات" للمدونة عن محله وصنعته وعلاقته الوثيقة بـ "سوق باب إنطاكية" قائلاً: "عشت في داخل هذا السوق طفلاً ويافعاً وشاباً وتاجراً، والدي رحمه الله هو من اشترى هذا المتجر في عام 1958، في البدء كان المحل متخصصاً ببيع أحجار الأدراج وأرضيات الخانات، ومن ثم تحول لتجارة الحديد والبيتون والإسمنت، ومع النهضة العمرانية تحولنا لبيع السراميك والبورسلان، ومن ثم تخصصنا ببيع الفخاريات للمداخن والمزارع والأفران والقرميد الحراري مع البلوك "الهاردي" المخصص لعزل الأصوات وتخفيف الحرارة صيفاً وتقليل البرودة شتاءً".
ويضيف: "شهد السوق في العقدين الماضيين حركة تجارية وصناعية لامثيل لها، نظراً لحاجة مستثمري البناء لمواد السوق من صحية وفخاريات وأحجار وسيراميك وبورسلان ومجالي، وجميع تجار السوق يعرفون بعضهم بعضاً ويشدون أزر التاجر الذي يتعرض لضائقة مالية أو للإفلاس، ويسعفونه حتى لا ينكشف حاله ريثما يستعيد قوته ونفوذه.. كان السوق يفتح مبكراً ويغلق في ساعة متأخرة، ومن مزاياه تحريك المال وإنعاش الحالة الاقتصادية واليد العاملة و"العتّالة" والذين ينتظرون فرصهم والجالسين على الدوار القريب من هنا".
مدينة مصغرة
يعتبر "سوق باب إنطاكية" مدينة تجارية مصغرة بما يحتويه من مختلف المواد، وهناك عدة محال تختص بنحت لوحات التدشين والمناسبات وأحجار القبور وتلك الحرفة تحتاج لخبرة ومهارة خاصة لإنجازها، ويعد الحاج "عمر ناولو" أشهر نحات وسط السوق حيث توارث العمل من والده.
يقول "ناولو": "أعمل بتنسيق وتخطيط وتلوين لوحات التدشين مع نحت شواهد القبور منذ أكثر من ثلاثين عاماً، والعمل يحتاج لخبرة ودقة نستخدم فيهما الإزميل والمطرقة بدقة وهدوء متناهيين، حتى لاتتعرض الأحجار للكسر عدا عن غلاء قيم أحجار الخام يضاف لها أجور نقلها وصقلها وحفرها، الطلب على النحت المتنوع في تزايد وهو مكلف، وحفر الشواهد له أنواع وارتفاعات معينة حسب طلب الزبون، وقد يستغرق أسبوعاً ريثما يخرج بالشكل المطلوب، مهنتنا متعبة ومرهقة ودقيقة وتحتاج للخبرة".
بدوره يقول "محمد حمامي" صاحب محل أدوات صحية بـ "حي الحمدانية" الذي التقته المدونة داخل "سوق باب إنطاكية": "أشتري كل بضائع محلي من داخل هذا السوق لعدة أسباب أهمها بيع التجار بسعر الجملة، وثانياً وفرة المواد الأولية والصحية ومهاودة الأسعار قياساً بأسعار باقي الأسواق، فضلاً عن أن التجار هنا يعاملون زبائنهم بثقة".
عمال السوق
وختام جولة المدونة كان مع بعض عمال العتالة الجالسين على الدوار حيث إن عددهم عند مطلع كل صباح يفوق المئة وخمسين عاماً، تراهم جالسين مع أدواتهم ينتظرون من يأتي إليهم لتشغيلهم في تحميل وشحن المواد أو في أعمال البناء، وعن ذلك يتحدث للمدونة أقدم عمال "باب إنطاكية" "هائل عبد السلام" بالقول: "منذ أكثر من ثلاثين عاماً وأنا أحضر كل صباح مع أدوات عملي وطعامي لدوار "باب إنطاكية"، وجميع عمال العتالة اختاروا هذا المكان لقربه من السوق وأغلب المتعهدين باتوا يعرفوننا جيداً، وبالنسبة لي أنا أقوم بواجبي على أكمل وجه وأعمل ما يتيسر لي حتى أحصل على قوت يومي، العمل متعب ومضنٍ ومرهق والأجور ضعيفة، ولكن ليس باليد حيلة".
أما العامل "محمد طالب" يقول: "أغلب عمال "باب إنطاكية" الذين يأتون إلى هنا من الأحياء الشعبية الفقيرة ومن الأرياف، يجلسون بجانبنا وهم ينتظرون فرصة عملهم ونحن لانقصر في مساعدتهم فلديهم عوائل مثلنا، العمل هنا رزق وقسمة ونصيب قد نعمل وقد لا، تبقى عيوننا مفتوحة نحو الأحمال التي تحتاج لليد العاملة في السوق.. نعرف بعضنا منذ زمن وهمومنا واحدة ومشتركة، عملنا مرهق ويعتبر من أصعب الأعمال البدنية".
تم إجراء اللقاءات والتصوير بتاريخ التاسع من شهر تشرين الثاني لعام 2023 وسط سوق "باب إنطاكية".