عام 1995 نال الطبيب ذياب الفاعوري "كفر حارب 1966-2023"، منحة وزارة التعليم العالي للحصول على شهادة Facharzt في جراحة القلب من ألمانيا، ومعها بدأ مشواراً حافلاً امتد اثنين وعشرين عاماً، أجرى خلالها عدداً كبيراً من العمليات الجراحية الناجحة، وأشرف على رحلاتٍ علاجيّةٍ طويلة الأمد، كما شخّص وعالج أمراضاً قلبية على درجةٍ من الخطورة، وفي جميعها كان إنساناً قريباً من المرضى، قبل أن يكون جرّاحاً.
خبراتٌ متراكمة
أُولى محطات الفاعوري كانت في الهيئة العامة لمشفى الشهيد باسل الأسد لأمراض وجراحة القلب عام 2001، والذي أصبح مديراً عاماً له بين عامي 2012 و2019، إضافةً إلى عمله في عدد من المشافي الخاصة في عدة محافظات، وفي رصيده أيضاً رئاسة مجلس اختصاص جراحة القلب في الهيئة السورية للاختصاصات الطبية عام 2019، ورئاسة لجنة الامتحانات في المجلس ذاته (البورد السوري) من 2014 حتى 2019، كذلك كان نائباً لرئيس الرابطة السورية لأمراض جراحة القلب، وعضواً في الجمعية الأوروبية لأمراض القلب، وبموازاة هذا كله، اكتسب الفاعوري لقب (استشاري جراحة قلب) وهي درجةٌ ينالها الطبيب عادةً بعد سنواتٍ من الخبرة، وِفقاً للعُرف المُتفق عليه بين الأطباء.
صديقٌ وجرّاحٌ مُتعاون
يستعيد استشاري جراحة القلب والمدير العام لمشفى الشهيد باسل الأسد الدكتور راغب سليمان، لقاءاته القديمة بزميله وصديقه الفاعوري، حين كانا يستعدان للسفر لدراسة الاختصاص، الأول إلى فرنسا والثاني إلى ألمانيا، ومن ثم اجتمعا عام 2006 في مشفى الباسل، وعملا معاً في ميدان جراحة القلب، يقول سليمان في حديثٍ إلى "مُدوّنة وطن": "كنّا نتعاون في إجراء العمليات والاستشارات الجراحية للحالات المرضية الخطرة، وكان الدكتور الفاعوري مثال الجرّاح المتعاون، صاحب الهمة والنشاط أينما حل، شاركنا في فعالياتٍ طبيةٍ ومؤتمراتٍ كثيرة، من بينها مجلس البورد العربي لأمراض وجراحة القلب، حيث ساهمنا في تنظيم وإجراء الامتحانات للأخصائيين الجدد في سورية (لبورد السوري لاختصاص جراحة القلب)، وقبيل رحيله بفترةٍ قصيرة، سافرنا معاً إلى فيينا لحضور المؤتمر الدولي السنوي لأطباء وجرّاحي القلب، وكان صديقاً يصعب نسيانه".
مصلحة المرضى أولا
كما يحدث في مُختلف المهن، عايش الطبيبان أجواء المنافسة، لكن بطريقةٍ تصب في خدمة المرضى، يقول سليمان: "كنّا نتسابق بعيداً عن أية غيرة، ليُثبت كلٌ منا وجوده كطبيب، بطريقة حضارية وأخلاقية وتعاونية، تنعكس لتطوير العمل في مجال جراحة القلب، وأداء الخدمة الأنسب عبر التشخيص الصحيح والقرار المناسب للمريض، التعاون بيننا جعلَنا في حالة حماس واندفاع للبحث والنقاش دائماً، هذا كان مبدأ التنافس عندنا وليس بالإساءة أبداً".
وحتى عندما يكون أحدهما مديراً والآخر طبيباً جرّاحاً، كان العمل يجري ليصب عند المرضى، يُضيف سليمان للمدوّنة: "لم تكن الإدارة غاية أحدٍ منا، لكننا عندما نُكلّف بها لمساعدة الآخرين، نقوم بواجبنا. وسواءً كنت أو كان مديراً عاماً لكننا طبيبان دائماً، وهي نقطةٌ إيجابيةٌ تُحسب لمشفى الباسل، كلنا نشتغل لنبقى جميعنا كياناً واحداً متصلاً... أذكر خلال فترة إدارة الدكتور الفاعوري للمشفى، أن مشكلةً حدثت مع أحد الأطباء، وكان بحاجة لدعم معنوي وعملي، وعلى وجه السرعة استجاب له وساعده، بهدوءٍ وإنسانيةٍ، وهي لفتة جميلة من مدير وزميل وإنسان".
خسارة للجميع
اقترح الدكتور سليمان على المعنيين في وزارة الصحة، تشييع الفاعوري من مشفى الباسل، كونه المكان الذي عمل فيه منذ عودته من ألمانيا وحتى رحيله، بل يُمكن القول على حد تعبيره أنّ الراحل أعطى وقته كله للمشفى والمرضى، وقدّم خلال فترتي إدارته وعمله كطبيبٍ جرّاح، خدماتٍ إداريةٍ وطبيةٍ جرّاحيةٍ كبيرة، يشرح أيضاً: "كان الدكتور الفاعوري مُتابعاً للعمل الجراحي وتطوره المُتلاحق، أجرى عمليات يصعب وصفها بكلماتٍ مُختصرة، كانت نسبة نجاحها عالمية، وعندما طرحتُ الفكرة ليتسنى لنا وداعه كما يليق به، وجدتُ تأييداً كبيراً من الجميع، وفي مقدمتهم عائلة الراحل، وزملاؤه من أطباء وممرضين، حتى إننا عقدنا اجتماعاً في مدرج المشفى قبل التشييع، صدقاً كان يغص بالحاضرين الذين فقدوا بغيابه أباً وأخاً وصديقاً، كذلك خسرت سورية جرّاحاً بارعاً مُخلصاً وإنساناً يحترم إنسانية الآخرين".
الانسان والمعلم
في مشفى الباسل أيضاً، تحدثنا إلى أخصائي تخدير جراحة القلب الدكتور سامر نقشبندي، والذي عمل مع الدكتور الفاعوري حوالي 24 عاماً، اعتادا خلالها متابعة المرضى باستمرار، لا سيما بعد الجراحة، ويبدو أن هؤلاء ربطتهم علاقةٌ جميلةٌ جداً بالراحل، حتى إن إحداهن كما يحكي نقشبندي للمُدوّنة، اتصلت به تُعزّيه، وكانت التقت بالراحل منذ 19 عاماً عندما أجرى عمليةً لوالدها.
في تعامله اليومي مع الأطباء المقيمين في المركز ونُظرائهم من الخريجين في سنواتٍ مضت، كان التعليم ونقل المعرفة هاجساً شغل الفاعوري، وقضيةً آمن بها وعمل بموجبها، يقول نقشبندي: "الفاعوري علّم الأطباء كيفية العمل وكيفية التفكير أيضاً، بمعنى إن التكنولوجيا الطبية حولت المريض اليوم إلى مجموعة صور وتحاليل، لكن هذا كان غير واردٍ بالنسبة إليه، فقد كان طبيباً شمولياً وواسع الأفق، يدرس حالة مريضه بكل تفاصيلها، حتى أنه يهتم بحالته العاطفية والنفسية، ومن ثم يُوجهه نحو الاتجاه الصحيح في العلاج. هذا التعاطي نفتقده عند كثيرٍ من الأطباء للأسف".
في السياق ذاته، اهتمّ الراحل بتوثيق كل ما يتعلق بالمرضى، من ضمن ذلك تصوير العمليات، والغاية كما يشرح نقشبندي تعليم الطلاب، واطلاع المريض على حالته بوضوح، إلى جانب حفظ الجهود التي يبذلها الأطباء السوريون، الذين يعملون بإمكانيات لا تقل عمّا يمتلكه الآخرون في دولٍ متقدمة.
يتحدث نقشبندي عن تواضع الفاعوري وحرصه على العمل بعيداً عن لفت الأنظار واستجداء الاهتمام، رغم الشهرة التي حظي بها بين المرضى كطبيب جرّاح، أجرى عمليات جراحية غير اعتيادية، من بينها عملية دقيقة ونادرة في سورية، استغرقت أربع ساعات ونصف (تبديل أبهر صاعد مع تصنيع صمام أبهري دون تبديله) بالتعاون مع الطبيب اللبناني فراس بيطار، وفي رصيده أيضاً عملية معقدة جداً (تصنيع وسادة على أرضية التهاب شغاف).
جرّاحٌ مُبدع
الصحفية تغريد ريشة، استعادت حادثة جمعتها مع الراحل الفاعوري، بعد أن خضعت لقثطرة قلبية غير ناجحة، أُصيبت خلالها بمضاعفاتٍ استدعت إجراءها عمليةً دقيقةً وسريعة، حينها لجأت عائلتها إلى أحد الأطباء، الذي عرض إجراء العملية في مشفى خاص حيث يعمل، وطلب مبلغاً كبيراً، ولمّا سُئل عن نسبة الخطورة، أجاب بثقة (٨٥% ومهما حدث تقولون لي شكراً).
هكذا، استمر بحث العائلة عن طبيبٍ مناسب، وبناءً على نصيحةٍ قُدّمت لهم، انتقلت ريشة في اليوم التالي إلى مشفى الباسل لجراحة القلب، تقول: "بدأت رحلة خوف جديدة لأولادي، وعندما التقوا جراح القلبية ومدير المشفى الدكتور ذياب الفاعوري، الذي شاهد جزعهم وأسئلتهم المتكررة عن خطورة العملية، قال: أنتم خائفون كثيراً، لا داعٍ لهذا الخوف، العملية بسيطة ونسبة الخطورة لا تتجاوز ٣/٥%، بعد العملية الناجحة عادت لي الحياة بفضل هذا الجرّاح الذي يمتلك إمكانياتٍ نادرة، ماذا أقول يا دكتور، يا من أعاد لي الحياة .. وأعاد لقلبي نبضه المُنتظم، بعد تبديل أربعة شرايين، الرحمة لروح الجرّاح المُبدع".