حاملاً سنوات عمره الـ86 من غير أن يفكر في الاعتزال أو يتوقف عن الغناء، بهذه الروح يستمر الفنان "موفق بهجت" في عطائه كلما سنحت له الفرصة ليقدم الجديد والجميل لجمهوره، وهو مؤمن أن الفن العربي هو سوري بالدرجة الأولى، وهو المنهل الذي صنع رواد الموسيقا في مصر ولبنان ويرى أن مهمة الفنانين تكمن في سورية الحفاظ على هذا الإرث العريق.

التماس الطريق

في يوم ربيعي والشمس تنشر أشعتها على نوافذ دمشق، بُشر "بهجت بعيرا" بولادة ابنه البكر "موفق" والذي انتظرته تلك العائلة طويلاً كأول ولد ذكر بعد عدة بنات.

كان جد المطرب "موفق بهجت" من وجهاء مدينة دمشق ومن زعماء حي الصالحية العريق، وكان ثرياً موسراً وصاحب أيادٍ بيضاء على الكثيرين، وانتظر أن يأتيه حفيد يحمل اسمه ويجدد إرث هذه الأسرة الدمشقية، ولفرط سروره بهذا المولود بنى جامعاً في ساحة السبع بحرات بدمشق.

المطرب مع الموزع هيثم الحموي

نشأة الطفل "موفق" لم تكن على هذا القدر من الدلال والبحبوحة، هكذا يصف المطرب مسيرته خلال حديثه لمدونة وطن ويقول: "تنقلت في مدارس عدة، فمن مدرسة اللاييك العريقة، وجدت نفسي أتنقل بين عدة مدارس في دمشق ولبنان وكنت أعاني الأمرين من عسف المدرسين، واختلاف السلوك وأنماط الحديث بين ما ألفته في أسرتي وفي مدرستي الأولى، وبين تلك المدارس التي ضمت طلاباً من مختلف البيئات والأوساط، لكن ذلك أتاح لي التعرف على شخصيات لعبت أثراً بالغاً حياتي الفنية وفي إبداعي الدمشقي تحديداً".

كان والد "موفق" يريد لابنه أن يدرس الهندسة وسعى لذلك بكل قوة، رغماً عن" موفق" الذي يؤكد أنه لم يستسغ هذا الاختصاص، وعندما سافر إلى ألمانيا لدراسته عام 1960 ترك الدراسة واشتغل في مصنع ثم تعرف على فتاة ألمانية وتزوجها، ودرسا معاً في معهد للتجميل، ثم عادا إلى دمشق وافتتحا صالوناً للتجميل، ولكنه لم يحقق النجاح، وبدا له أنه لم يتلمس طريقه الحقيقي.

من حفلاته القديمة

مسيرة غنية

الصحفي نديم معلا والكاتب سامر الشغري مع الفنان بهجت

كان لطف "موفق بهجت" وذوقه واحتفاؤه بالناس وبأصدقائه تحديداً، السبب الأكبر في التفاف نخبة من الشخصيات الفنية حوله، فصار يزور بيت العائلة باستمرار أسماء مثل "خلدون المالح وعبد الفتاح سكر وفهد بلان وعمر حلبي ونذير عقيل" وغيرهم.

ويتذكر "بهجت" تلك الجلسات قائلا: "كانت مثاراً للحديث في الفن حيث كان يقدم كل واحد منهم جديده في الشعر والغناء، وكانوا يستأنسون بآرائي في أي لحن، حتى أطلقوا علي لقب «الذواق»، فنصحوني بالتوجه للغناء، وهنا بدأت".

ويضيف: "قررت أن أسلك طريق الفن بما لدي من رصيد في الثقافة والشعر والغناء، فكان أول عمل من شعر الراحل "مصطفى البدوي" عشقت في الأندلسية، بينما كان اللحن تطويرا عن التراث الجزائري وقدمتها في برنامج تلفزيوني كان يقدمه من تلفزيون لبنان سنة 1965 الإعلامي الراحل خلدون المالح".

حاول ابن مدينة دمشق أن تكون بداياته الفنية من مدينته ويكون مخرجاً للمنوعات إلا أنه لم يتمكن من تحقيق طموحه، ويتابع حديثه: "توجهت إلى لبنان بداية الستينيات للعمل الإخراجي، ثم ذهبت إلى مصر واخترت طريق الغناء بعد أن نصحني بعض الأصدقاء الذين استمعوا إلى صوتي لأظهر نجماً استعراضياً في حفلات أضواء المدينة عام 1970" .

شهرة وتميز

تعاون "بهجت" مع عدد كبير من شعراء وملحني الأغنية الكبار في سورية والوطن العربي منهم (عمر حلبي وشفيق المغربي وأحمد قنوع وشاكر بريخان ومجدي نجيب وعبد الرحيم منصور وعبد الفتاح سكر ومطيع المصري وسمير مجدي وسعيد قطب وسهيل عرفة وأمين الخياط وفيلمون وهبي وبليغ حمدي ومحمد الموجي)، وكان من اللافت دائما أنه كان يحتفظ لنفسه بأسلوبه وطابعه المميز، وطريقته في الأداء فاختار الأغاني التي تتميز في الكلمة واللحن والصورة ضمن لون خاص به فتميز بفنه الاستعراضي وخفة دمه وابتسامته.

أما شهرته في عالم الغناء فتحققت مع أولى أغنياته (عشقت في الأندلسية) والتي انتشرت على مستوى العالم العربي بشكل كبير، ما شجع المطرب السوري على المضي قدماً في عالم الأضواء.

ويوضح "بهجت" أن المطربين السوريين حملوا الفن الأصيل ونشروه في كل أصقاع العالم، ويدين الكثير من نجوم الغناء العرب للإذاعة السورية في انتشارهم، ولا سيما مع وجود لجان موسيقية كانت تضم أسماء كبيرة.

تنقل "بهجت" بين عدة أقطار فعاش سنوات في لبنان والأردن ومصر، واتسمت كل مرحلة بطابع معين فأخذ أغانيه من اللون الشعبي مثل "بابوري رايح" إلى الغربي مثل "يمكن على بالو حبيب" إلى العاطفي مثل "سلامي عليكم"، بل وصنع لنفسه طابعاً خاصاً لا يشبه سواه وأكثر ما تبدى ذلك في أغاني "جايتني مخباية" و"ما قتلتني الا العين الكحلاوية " و"وأصبح علينا الصبح يا زينة"، وكان آخر حضور له على الخشبة في سورية خلال مهرجان الأغنية السورية الأول سنة 1995 وقدم خلاله موشح "يا كاسف القمر"، وكان من آخر تجاربه في تطوير القوالب الغنائية الكلاسيكية بأسلوب يماشي العصر.

تطوير التراث

نهل "بهجت" من التراث السوري وكان من أوائل الذين تصدوا إلى تطوير التراث كما في أغان، مثل "فوق النخل" و"عالأوف مشعل" و"يا حبيبي كيف عني أبعدوك"، وأيضا التراث العربي مع المالوف التونسي يا زهرة الذي أصبح "يا صبحة هاتي الصينية"، وفي مجال تطوير الأغنية، أيضاً من إسهاماته كان توظيف الفرق الراقصة فانشأ فرقة الأندلسية تيمناً بأغنيته الأولى، وظل يقدم معها أعماله بصورة احتفالية.

الأغنية الوطنية

اتجه صاحب أغنية (عزي وبلادي سورية) في سنواته الأخيرة للتركيز على الأغنية الوطنية بدءاً من (سألوا الأحبة و بلدي يا عيني عليك) و(طير البشائر)، وصولاً إلى أغنيته الأخيرة (عاش الوطن)، منطلقاً من حبه لوطنه ووقوفه معه باعتباره واجباً أخلاقياً وإنسانياً، ولإيمانه بدور الفن في ترسيخ حب الوطن بين الناس والأغاني الوطنية القديمة التي ما زالت في ذاكرة الجمهور.

يقول بهجت: إن الناس لا تزال تردد أناشيد وطنية قديمة تذكي فيهم الحماس والعنفوان من (سورية يا حبيبتي وبلاد العرب أوطاني) وغيرها الكثير، فالأغنية الوطنية تعزز مفاهيم الانتماء والمواطنة.

ولفت بهجت إلى أن هاجس الأغنية الوطنية كان بداخله منذ بداياته الفنية، حيث إنه من أوائل المطربين الذين غنوها ففي عام 1970، غنى للقائد المؤسس الراحل "حافظ الأسد" (الشمس طلعت يا أهل الغوالي) وهي من كلمات وألحان المبدع الراحل شاكر بريخان الذي ترك بصمة واضحة في الغناء الوطني والقومي، وأغنية ثانية بعنوان (رعاك الله) التي لاقت شهرة واسعة على مستوى سورية.

وعاد "بهجت" إلى جمهوره من بوابة الغناء الوطني بعد غياب استمر سبعة أعوام، من خلال أغنيته الجديدة "طير البشاير" التي كتبها ولحنها وأنتجها بنفسه، مبيناً أنه قام بذلك عندما كان مقيماً خارج الوطن للعلاج.

تجديد وابتكار

يقول الصحفي والكاتب المتخصص بالشأن الثقافي والفني "سامر الشغري":

تعلقت بالفنان الكبير موفق بهجت وأنا بعد طفل، وكان والداي يحبان أغانيه، وبعد أن عرفته عن كثب واجتمعت به مراراً، فهمت من أين جاء بهذا الكم من الإبداع، فهذا الفنان يمتلك ثقافة عامة وفنية قل نظيرها، ولا يتعصب لنمط بعينه، بل يبحث دائماً عن التجديد والابتكار وهذا لمسناه في أغنيته الأخيرة "طير البشائر".

ويضيف: "الأغنية السورية إنما عرفت للعالم من خلال ثلاثة أسماء حافظوا عليها، وهم الراحلين (صباح فخري وفهد بلان)، إضافة إلى فناننا موفق أطال الله بعمره، ولكنه يتميز عنهم أنه لم يتوقف عند خط معين بل استمر في التطور" .

تكريم مستحق

لا تزال المكانة التي زرعها الفنان الكبير "موفق بهجت" عبر أغانيه التي قدمها خلال ستة عقود راسخة في قلوب الناس وذاكرة الأجيال، حتى اعتبر بحق أحد رموز العصر الذهبي للفن والموسيقا في سورية، مقدماً خلاله نوعاً فريداً من الغناء بين الأغنية الراقصة والقصيدة والرومانسية، إضافة إلى الأغنية الوطنية التي أخذت حيزاً واسعاً من مسيرته الفنية.

الفنان "بهجت" ذو ال٨٦ عاماً قضى جلها في الفن والغناء، يقول بصراحة: إنه يتمنى التكريم على مسارح بلده الذي عشقه وغنى باسمه ولناسه ولقضاياه، وحمل راية الفن السوري في كل جولاته ورحلاته.

الفن الاستعراضي

ولم يشأ الفنان "بهجت" أن يسجل أغنيته في الغربة، فعاد أدراجه متحملاً مرضه وشرع بالتحضير لإنتاج الأغنية على حسابه الشخصي بالتعاون مع شركة سوناتا، وتواصل لهذه الغاية مع الفنان والموزع "هيثم الحموي" حيث شكلا معاً شراكة منذ موشح (يا كاسف القمر) عندما غناه بهجت في مهرجان الأغنية السورية بحلب سنة 1996، وسوف نجد عند الاستماع للمقطع الأخير من أغنية “طير البشاير” استعادة لمقدمة أغنية بهجت ذائعة الصيت، “عزي و بلادي سورية”، في توظيف ناجح ولافت لإحدى أكثر أغانينا الوطنية شهرة ونجاحاً.

ويشير الفنان والموزع الموسيقي "هيثم الحموي" إلى أن الأستاذ موفق بهجت هو أول من بدأ بالفن الاستعراضي وتميز فيه وجعل الأغنية السورية تحلق عالياً. وقد شاركته في موشح يا كاسف القمر وأطلق الأستاذ موفق عليه اسم موشحيست، و قدمه في مهرجان المحبة في قلعة حلب وحاز المرتبة الأولى.

قدم الفنان موفق بهجت من خلال أغانيه لوناً خاصاً به ومدرسة اعتمدت على الأغاني التراثية السورية مترافقة مع الفن الاستعراضي الجميل.

ويضيف الحموي: ما يلفتني في الفنان بهجت إصراره على العمل والعطاء فهو لا يزال يعمل ويسجل أغاني جديدة كل فترة رغم أنه كثير الأسفار ويقضي أغلب وقته خارج أرض الوطن.

ويتابع الحموي حديثه: قمت بتوزيع العديد من الأغاني الوطنية والعاطفية. وقد بدأنا العمل معا منذ مطلع التسعينيات.. بدأنا بيا كاسف القمر.. وآخر عمل كان أغنية وطنية بعنوان طير البشاير، الأغنية التي جعلت الحدث والموقف السياسي يتحول إلى كلام مغنى.