قريباً من المدخل الجنوبي للعاصمة، وفي حي القدم الشهير بكونه آخر مُودِّعي المَحمل الشريف المُغادر من دمشق إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج، وأول مُستقبليه قبل وصوله إلى دمشق مُجدداً في الموسم التالي، بُنيت محطة القدم للقطارات على مساحة 17650 م2 كجزءٍ من منظومة الخط الحديدي الحجازي، الواصل بين دمشق والمدينة المنورة زمن العثمانيين، والذي شهد مع الزمن تطوراتٍ وأحداثاً سياسية وعسكرية تركت آثارها عليه، وبطبيعة الحال كان لمحطة القدم ونظيراتها على طول الخط نصيبٌ من كل المستجدات.

إنشاء الخط

ظهرت فكرة إنشاء الخط الحديدي الحجازي عام 1864 م أثناء العمل في فتح قناة السويس حيث تقدم الدكتور الأمريكي زامبل باقتراح تمديد خط حديدي يربط بين دمشق وساحل البحر الأحمر، لكن هذه الفكرة لم تجد آذاناً صاغية آنذاك عند السلطة العثمانية، وفق ما يقول الباحث في التاريخ ومدير المكتب الصحفي في مؤسسة الخط الحديدي الحجازي يونس الناصر، مُشيراً في حديثه مع "مدوّنة وطن" إلى توالي الاقتراحات الشبيهة في أعوامٍ لاحقة دون جدوى أيضاً، إلى أن نال مشروع أحمد عزت باشا العابد، ثاني أمناء السر للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني الموافقة، ليصل أول قطار إلى المدينة المنورة قادماً من دمشق عام 1908، تحديداً في الثاني والعشرين من شهر آب، في رحلة استغرقت خمساً وخمسين ساعة، ومن ثم كان الافتتاح رسمياً في الأول من شهر أيلول من نفس العام، المصادف لعيد جلوس السلطان عبد الحميد الثاني.

أنواع المحطات

توزعت المحطات على طول الخط الحديدي الحجازي، وقُسّمت حسب الوظيفة التي تقوم بها من حيث النوع والدرجة والحجم، فهناك محطات للشحن وأخرى للركاب، كما وُجِدت بعض المحطات التي تقوم فيها وظائف أخرى كالصيانة وتوقف القطارات.

مدير محطة القدم المهندس أيمن رعيدي

يقول الناصر عن محطات الشحن: "تُجهز هذه المحطات بعدة خطوط وأرصفة مع مخازن البضائع والإدارات، وتكون فيها تجهيزات لتبديل العربات المشحونة لشحنها وتفريغها"، في حين "تُصنّف محطات الركاب إلى نهائية/رئيسة، ومتوسطة/فرعية، ويتبع ذلك لحجم التجمعات التي تقوم هذه المحطات بجانبها أو لأهمية المحطة بالنسبة لمسارات الخطوط القائمة عليها".

مركز انطلاق القطارات

أما عن محطة القدم، فقد حملت الرقم صفر أي النقطة الصفرية في التعداد الكيلو متري نحو المدينة المنورة، بوصفها مركز انطلاق القطارات الرئيس منذ إنشاء الخط حتى عام 1911 عندما بُنيت محطة الحجاز/القنوات، وبدأت باستقبال المسافرين، يقول الناصر: "عُدّت محطة تشكيل القطر الرئيسة، وضمت منشآت خدمة الخطوط والشحن والصيانة والمسافرين، إضافة إلى مستودعات القاطرات ومخازن اللوازم وعدة معامل، حتى إن بناءها ذو تصميمٍ خاص يختلف عن باقي المحطات، كما تعتبر أكبر محطة من بين محطات الخط الحديدي الحجازي، كان القطار ينطلق منها باتجاه سهل حوران، فيمر في قرية الكسوة متابعاً إلى المسمية/الشرائع/، ثم يقطع سهل حوران برمته ليصل إلى محطة درعا وسط السهل، ومنها يتفرع نحو حيفا، مع التنويه إلى أنه مع إنشاء محطة القنوات أضحت القدم محطةً متوسطة".

القطار في المحطة

الحرب العالمية الأولى

الاستشاري الخبير يحيى حلواني وسائق القطار

تغيرت أوضاع الخط مع انخراط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، يقول الناصر "كان الخط في عهد الحكومة العثمانية يُدار في جميع أقسامه بموازنة مستقلة عن موازنة الحكومة باعتبار أنه وقفٌ إسلاميٌّ، أما حالته بعد انسحاب الدولة العثمانية من الشام ودخول جيوش الحلفاء فكان كامل الأجزاء من حيث وضعه الأساسي، ولم يطرأ عليه الخراب سوى في الجهات البعيدة بعض البعد عن العمران، بينما بقيت الخطوط الحديدية سليمة على الجملة"، وهو ما ينسحب أيضاً كما يُؤكد الناصر على حالة الخط من حيث الآلات والأدوات والمعامل والقاطرات، كلها في جودة عالية، ومع نهاية الحرب بقيت 120 قاطرة بخارية جاهزة للاستخدام، بالإضافة إلى 1200 شاحنة و100 عربة للركاب من أصناف مختلفة، و20 شاحنة للبريد، وعدد كبير من الصهاريج، كذلك كانت المعامل والمستودعات الموزعة على طول الخط وفروعه بحالةٍ جيدة، ومنها معامل "القدم، درعا، عمان، معان، تبوك، مدائن صالح، المدينة المنورة، سمخ، حيفا"، المتباينة في كبرها وحجمها، وتعتبر معامل القدم هي الأكبر والأضخم على الإطلاق.

تخريب الخطّ

يُضيف الناصر للمدوّنة: "عندما نشبت الثورة العربية بقيادة الشريف حسين عام 1916، واستولت على معظم مدن الحجاز، لجأ عام 1918 تنفيذاً لمشورة الضابط البريطاني لورانس إلى تخريب الخط ونسف جسوره وانتزاع قضبانه في عدة أجزاء منه، وبذلك انتهت قصة سكة حديد الحجاز بكل فصولها الجميلة، ولم يتبق منها سوى أطلال السكة والمباني والقلاع العثمانية التي كانت شاهدة يوماً ما على مرور قطار الحجاز فيها، وفي عام 1919 تم تقسيم الخط إلى أقسام متعددة يتبع كل قسم للدولة الواقع فيها بما يحتويه، ورغم المحاولات التي قامت بها الحكومات المختلفة على طول الخط لإعادة إعماره وتسيير الرحلات عليه إلا أن خط سيره اقتصر على سورية والأردن، وهنا انتهى دور محطة القدم الرئيس، نحو أدوارٍ أخرى، تتماشى مع الوضع العام، إلى جانب المحطات الأخرى في سورية (القنوات، الكسوة، دير علي، مسمية، جباب، خبب، محجة، ازرع، خربة الغزالة، درعا، قم غرز، نصيب)".

في التاريخ المعاصر

قبل الأزمة في سورية، قدمت المحطة خدماتٍ في النقل والسياحة والاقتصاد، يتحدث مدير الحركة والجر والآليات في مؤسسة الخط الحديدي الحجازي والمسؤول عن محطة القدم للقطارات، المهندس أيمن الرعيدي: "استُخدمت محطة القدم كمحطةٍ لقطارات الركاب والشحن، التي كانت تنطلق باتجاه الساحل وحلب والمنطقة الوسطى، كما كانت تتحرك بعض القطارات داخلياً ضمن مدينة دمشق لفترة محدودة، باتجاه محور قطنا".

ومع بدء الأحداث عام 2011، اضطر العاملون في المحطة إلى مغادرتها نحو محطة الميدان، إلى أن عادوا إليها عام 2019، يقول الرعيدي لـ "مدوّنة وطن": "عندما عدنا كان الدمار كبيراً جداً في مختلف المحتويات، من بينها معامل صيانة القطارات والعربات التي قامت منذ عام 1900 بكل أشكال الصيانة والتصنيع، وما تشتمل عليه من أقسام للمخارط القديمة والمكابس والحدادة والسكب، كذلك طال التخريب متحف الخط الحديدي الحجازي الذي افتتح عام 2008، وعدّ وقتها أكبر متحفٍ للقاطرات في العالم، بشقيه الخارجي المُتضمن قاطراتٍ بخاريةً قديمةً، والمُغلق وفيه وثائق نادرة ومقتنيات خاصة بالسكك بشكل عام، وقطع قديمة أثرية للقاطرات البخارية، لم ينجُ منها سوى أجزاء، وبطبيعة الحال توقفت حركة القطارات بالكامل، إلى أن أقلعت مجموعة معامل وورشات إنتاجية واستثمارية في المحطة، من بينها معمل لتصنيع لوحات السيارات، وهو الوحيد في سورية".

قطار النزهة

خلال الأعوام الماضية، أعادت المحطة تشغيل قطار النزهة تلبية لمطالب الناس، الذين اعتادوا ركوب القطار إلى منطقتي عين الفيجة والزبداني.

يُضيف الرعيدي: "حاولنا تفعيل حركة السياحة الداخلية بإعادة إطلاق قطار النزهة بين محطتي الربوة ودمر عبر قاطرتين وعدة عربات، ومع أنه محور صغير لكنه مرغوب ومُحبب، ويلبي رغبة شرائح عديدة من السوريين الذين يحتفظون بذكريات جميلة عن القطار ويرغبون بتكرار التجربة، ولا يزال هذا الخط موجوداً لكن بشكل خفيف بسبب التكاليف المرتفعة، وكما هو معروف فإن سعر التذكرة لا يتناسب أبداً مع تكلفة تسيير الرحلات، لكن نحن جاهزون لرحلة دورية في حال الطلب من أي جهة رغم الخسارة الكبيرة، وفي جعبتنا اليوم 4 قاطرات لمواكبة الفعاليات المختلفة أو تصوير الأفلام والمسلسلات، ونعمل أيضاً لإعادة تأهيل المتحفين في المرحلة القادمة، لِما لهما من قيمة أثرية تستحق الزيارة والاهتمام".

جولة في المتحف

في المحطة التقينا يحيى الحلواني/ أبو محمد/، والذي دخل المؤسسة عام 1968، كتلميذٍ متمرنٍ في معمل إصلاح القطارات، ثم تنقّل بين قسمي المخارط والحدادة، واستلم فيما بعد ورشات صيانة قطارات الديزل وقيادتها، تلاها مستودع القطارات مع تهيئتها وإرسالها باتجاه محاور وادي اليرموك وبصرى والزبداني، إلى جانب تدريب السائقين، واليوم بعد مضي 56 سنة على وجوده في المحطة، يعمل بصفة خبير في مؤسسة الخط الحديدي الحجازي "استشاري".

يصحبنا الحلواني في جولة حول المتحف الخارجي، وفيه كما يقول للمدوّنة 19 قاطرة بخارية أثرية، يعود تاريخ صنعها إلى الفترة الممتدة بين عامي 1895 – 1914، وهي ألمانية وسويسرية الصنع، تعرّض بعضها للضرر، منها قاطرة بخارية "ونترتور" كانت وجهتها بيروت سابقاً، تسير بالنفط الخام كما تقول اللوحة التعريفية الخاصة بها، وقاطرة رومانية تعرضت لحادث على طريق سرغايا أخرجها من الخدمة عام 1984، بينما تبدو الأضرار أكبر في بناء المتحف الداخلي الذي تدمرت معظم مقتنياته عدا أجزاء كما أسلفنا، وبين أنقاضه يُميّز الحلواني مجموعة آليات معطّلة منها "رافعة تستخدم في فرن تلبيس محاور عجلات القطار، ميزان للنوابض، مكبس، مقص حديدي"، كذلك الأمر في قسم الديزل بما فيه من شاحنات وقاطرات وأقسام مخصصة للنجارة والتنجيد والدهان، منها قاطرة رومانية بمحرك "إم تي يو ألماني"، وقوة جر 1500 حصان، كانت تسحب معها 30 شاحنة إلى عمان، مُضافاً إليها روافع لصيانة محركات الجر، وعربة السلطان عبد الحميد الثاني الأثرية التي أُحرقت في مكانها، علماً أنها خضعت قبل الأزمة إلى ما يُسمى على حد تعبير الرجل "تعميراً عاماً" أي فك وإعادة تركيب، وفي أقسام السكب والمخارط والقوالب آلياتٌ ضخمةٌ مُتفحمةٌ.

ورغم الكوارث التي ألمّت بمحطة القدم التاريخية، يلفت الحلواني انتباهنا إلى الشجر الذي ينبت فيها من بين الركام، على أمل أن تعود قطاراتها ومُتحفها إلى خدمة الناس.