على مرتفعٍ أخضر مُفعم بأشجار الجوز والسنديان والزيتون وفي أقصى زاوية من شمال وغرب "شير البهلولية" -إن لم تخني الجهات- وفي أعلى سفح منحدرٍ يأخذك لاتساع مدى بحيرة سد ال(16) تشرين في ريف اللاذقية اختار علي عبد الله سعيد (1958) ذلك الفضاء الخلفي باعثاً جماليّاً وإبداعيّاً لكلِّ ما أنجز إلى اليوم من قصةٍ ورايةٍ وقصيدة.
وحسب تعريف بعض القواميس فإن"شير"، يعني الحسن الجميل.. وأظنها هنا تعني كتف البهلولية - القرية القريبة - والذي يبدو "الشير" كتفها الأخضر المطل على البحيرة.
حلبة الشك
أذكر "شير البهلولية"؛ لأقول إن علي عبد الله سعيد، قليلاً ما غادر هذا المكان حتى يعود إليه، فهو لم يتوسل المدن الكبرى، ولا العواصم حتى يصل إبداعه إلى البعيد البعيد، حيث تجاوز بكثير من يقطن المراكز.. ومنذ أول كتبه، فإنّ صدور كتابٍ لعلي عبد الله سعيد، لن يمرَّ دون أن يحدث جدلاً واسعاً، قبل أن ينال ما يستحق من جوائز خارج الحدود.. بل إن الجدل يبدأ حتى قبل إصدار الكتاب، وكثيراً ما يبدأ من عند الناشر والرقيب.. الأخيران اللذان ما أن يصل إليهما مخطوط علي عبد الله سعيد حتى يضع كلٌأ منهما يدهُ على قلبه..
ومحنة علي عبد الله سعيد مع الرقابة؛ محنة مزمنة، وهو الذي ينظرُ إليها بعينه الحمراء، وهي الأخرى التي لا تملُّ تنظر إليه بعين الراصد المترصد وحتى المتصيّد أحياناً.. وما صدور روايته الأخيرة – سكر الهلوسة- بعد ما يُقارب من سبعٍ وثلاثين سنة على كتابتها أول مرة؛ إلا تراجيديا هائلة لعلاقة هذا الأديب الإشكالي وحكايته "العريقة" مع الرقابة.
ورغم كلِّ هذا الحصار والترصد من حضرة الرقيب لحضرة الكاتب؛ فقد استطاع علي عبد الله سعيد أن ينال من غريمه على حلبة الشك، بأكثر من ضربة يقين قاضية، كان من نتائجها: "اختبار الحواسّ" الرواية الحائزة جائزة الناقد سنة 1993، والتي وضعت علي عبد الله سعيد على سكة الكتابة الإشكالية، كما قدمته كروائيٍّ من طرازٍ مختلف، ثم كانت راويته الثانية "جمالية المتاهة" الرواية التي نالت جائزة منتدى ابن خلدون القاهرة 1993، وبعدها روايات: "براري الخراب" - دار آرام- دمشق 2000.. كما صدرت له روايتا: "البهيمة المقدسة، وجسد بطعم الندم"، ومؤخراً رواية "سكر الهلوسة" 2024..
أما الأعمال القصصية فكان له: "هكذا مات تقريباً" - وزارة الثقافة السورية 1993، و"موتُ كلبٍ سريالي" الصادرة أيضاً عن وزارة الثقافة السورية 1993، والتي نالت جائزة أصدقاء الأدب.
ميدان أساسي
ورغم أنّ علي كتب الكثير من الشعر، غير أنه لم يجمعه ليصدره بين دفتي كتاب، واكتفى بنشر أغلبه على صفحته الشخصية على "الفيسبوك"، ربما لأنه لا يرى في القصيدة أكثر من استراحةٍ من اللذة الشعرية في مسيرة كلِّ هذا السرد الطويل.. وربما لأنّ قصيدته تحملُ من الشراسة الشعرية ما تستنفرُ له كلُّ حواس الرقباء بما فيها الحاسة الثانية عشرة.
ومن ثمّ كان ميدانه الرحب وربما الأرحب هو الرواية التي كانت تتسع لكلِّ نزقه، ولأن يُناور من خلال سردها كل تلك "الشراسة الشعرية" التي تشهرُ بها قصيدته.. الرواية التي يقول عن علاقته معها: "ميدان الرواية.. بالنسبة لي على الأقل كقارئ.. ليس الغوص في التاريخ ككومةٍ من الخردة والنفايات المُنجزة المُستهلكة تاريخياً, والتي يصعب ضبط إحداثياتها بدقة، إلا كتشبيحٍ عاطفي بتشبيحٍ لغويٍ هابطٍ مبنيٌّ على الافتعال والتركيب الساذج غير البريء وغير المفيد، والمُعاد تدويرها بابتذالٍ أيديولوجي.. سوى في الشحن العاطفي.".
ويُضيف: إنما الميدان الاساسي هو الواقع.. الحياة اليومية لناس نعيش بينهم ويعيشون بيننا، نستطيع أن نفهم سلوكهم ونضبطه لإعادة إنتاجه في خطابٍ روائيٍّ جمالي فني وقصدي أيضاً، أو إيديولوجي، إنما غير حزبي؛ لأنّ الرواية كبيرة، والأحزاب صغيرة جداً. لكن.. ليس بهدف التكريس, بل بهدف الصدام والتغيير، أو الإشارة إلى ضرورة ذلك.
سردياتٍ مدهشة
علي عبد الله سعيد الذي تميز أسلوبه بالكثير من الملامح، ملامح أظن من الصعوبة بمكان لمن يقترب منها، دون أن يكون "عاصي" في (شير البهلولية)، لا سيما في تهكمه وسخريته الحادة كالنصال، سخرية لا تتوانى أن تنبش لأقصى مفردة مهملة في سياقاتها المعتادة، ليقوم بتنظيفها، وإزاحة كلّ ما علق عليها من غبار الإهمال والمعتاد، ويلمعها، وربما يزيدُ في حدّتها، وهو يضعها مطمئناً في سياقها الجديد، وهو يبني عمارته اللغوية من كلِّ هذا المعتاد المهمل في اليومي في فوضى مترامية الأطراف، ومن ثمّ يُعيد بناءها في سردياتٍ مدهشة، سواء جاء ذلك في سرد رواية أو قصة قصيرة، أو ببعض المجاز الذي صنعه من خلال تلك التراكيب التي يصيغيها بتقنية الانزياح، التي طالما برع باستخدامها لدرجة الإبهار، وهو يبني القصيدة، التي هي الأخرى لا ينسى أن يُزينها ببعض الحكائية..
ودون أن يُضحي بالفكرة أو المضمون، الفكرة التي يقول عنها إنها "أكثر من جيدة بالنسبة لي.. أيضاً لا فائدة من مؤَلَّف أو مؤلِّف لا يفسد عقلي قليلاً.. على الأقل كي أقر بأهميته أو بشرعيته.. أجل شرعية المؤلف تأتي من قدرته على إفساد العقول المستسلمة المسالمة المطمئنة؛ بناء على ذلك أستطيع القول بأنَّ جلَّ ما قرأته كان تافهاً، ولا معنى له؛ لأنني كلما تلمست عقلي أو تحسسته أجد أنه غير مفسد أو معطوب، أي غير فاسد إلا بنسبةٍ ضئيلة جداً.. ما يحزنني فعلاً.. أنه لم يتبق الكثير من الوقت لدي كي أفسد عقلي كاملاً بمئات بل بآلاف المؤلفين..".
سكر الهلوسة
وبالعودة ل"سكر الهلوسة"، التي صدرت مؤخراً، بعد سبعٍ وثلاثين سنة على كتابتها لأوّل مرة عن محترف (أوكسجين)، في أوتاوة بكندا؛ يذكر ناشر الرواية: "الكاتب الحقيقي إن جاز القول والتعبير كعادته ابنٌ لـبيئته، يكتبُ ما يراه وما يشعر به، وعلي عبدالله سعيد ابنٌ لـبيئته.. وأقصد بالبيئة هي بلاده.. وطنه.. سورية الثمانينيات.. كتب الروائي ما رآه وما سمعه وعاشه، إذ دوَّن أيامه بعنايةٍ فائقة كـمُسنّة تنتقي الأحجار من بين فلقات العدس، باحترافٍ وحرقة قلبٍ مفجوع، يسرد تلك الأيام بصيغة اعترافية خطابية ندائية "يا سلام"، تتكرر كلازمة للروي المتسارع، كأنه بذلك يريد إيصال صوته، أو كأنه يجتر ذكرى معينة خدشت روحه، فالكتابة في كثير من الأحيان تكون حدثاً ترك أثره فينا ومضى، عن "سلام الجزائري" – إحدى شخصيّات الرواية، الموصوفة بـالبغلة المتعالية المغرورة، وصاحبة إثارة فضائحية من ركبتها إلى عينيها، هي إحدى شخصيات الرواية تتشكل بمفرداتنا؛ المفردات التي نستخدمها في حياتنا العامة مع العوام دون حاجة الالتجاء إلى بلاغة في التعبير وزخرفة في الجملة، أو عبارات نستحوذ عليها من قواميس الآخرين."..
ومع ذلك يؤكد الروائي علي عبد الله سعيد: " ليس هناك من رواية أو روائي هدفه الأساس هو التشهير بـ.. أو التحقير بمجتمع من المجتمعات، أو لعقيدة من العقائد، أو غير ذلك.. حتى لو حاول جاهداً أن يرتكب حماقةً من هذا القبيل.. لن يستطيع."..
روايات متفردة
الشاعر والموسيقي مروان دريباتي، الذي خبر المحترف الروائي لعلي عبد الله سعيد عن قرب؛ يقول عن هذه التجربة الروائية اللافتة: "سكر الهلوسة، هلوسة السكر، هلوسة علي عبد الله سعيد.. عبث، محبة.. إنها ألاعيب علي عبد الله سعيد الذي يكتب روايته، ويمضي موغلاً في القادم.. يؤرشف هذياناته التي تسكننا، أو تسكن غالبيتنا، أو غالبيتهم، أو الكثر ممن يقرؤون.. فعلي لا يكتب رواية تقليدية على أنماط الرواية العربية، وليس على شاكلة الرواية المترجمة إلى العربية.. إنه يكتب روايته التي تشبه، أو تحاكي ما بدواخلنا في لحظاتٍ عابرة لحسن حظنا.. يكتب رواية عن لحظاتٍ عابرة، لشخوصٍ عابرين، وليس مهماً أن تقف عندهم.. فهو يمرر من خلال رؤيته دهشةً بريئةً عما يجري عن أي حدث رغم الصدأ الذي يلبسه كحدث.. هكذا نوع من رواية التداعيات؛ لن يتمكن أي سيناريست من قضم هكذا رواية ليحوّلها إلى سيناريو فيلم أو مسلسل، إنها فقط رواية للقراءة.. حيث تنسابُ اللغة التي يصرُّ عليها على طول حبل الرواية، وهي تنقلك من مطرحٍ ألى مطرح، وكأنها تنقلك بلا عناء أو تعب.. فهي ليست رواية من النوع الذي لا يمكن أن تتركها حتى تنهيها، بل هي رواية ثقيلة المتابعة على من يودُّ السرعة في الوصول.. رواية غايتها البطء في قراءة مجاهيل الرواية، والذي يجد في شخصياتها متعةً ونقمة بنفس الوقت..
ولمن يعرف علي عبد الله سعيد شخصيّاً؛ فلا فائدة من ذلك والرواية بين يديه، كأغلب الروائيين العرب، وكأنهم يكتبون الرواية من مكانٍ بعيد من اليسار السياسي، وهم يحملون همَّ الكرةِ الارضية على صفحاتهم، لكن عندما تلقاهم، تجدهم، وكأنهم في النعيم وأظنها من صفات الجنة، يجلبون البؤس من كلِّ الجهاتـ ويلبسونهُ لشخصياتهم، وكأنهم صنّاع التراجيديا والمحن.. أما الفرح والقفشات والكوميديا والهذر والفرفشة، فهي المطلوبة في كلِّ جلسةٍ، أو جمعة حيث نبقى ويبقى التندر.. "، ويُضيف: رواية متفردة بعلي عبد الله سعيد الكاتب الروائي القدير والقديم من أول رواية له (اختبار الحواس) - دار رياض الريس، ومجموعته القصصية الأجمل (هكذا مات تقريباً)، إلى روايته (براري الخراب، والبهيمة المقدسة)، وإلى هذه الرواية..
وأخيراً اختم بما أشار إليه ناشر رواية (سكر الهلوسة) حيث يقول: " تتجاوز هذه الرواية زمنَها الحقيقي بين عامي (1983 و1986)، لتفرض زمنها الخاصّ، مديداً وآنياً، مليئاً بالأحداث والشخصيات، في حبكةٍ تتخطى فيها كلَّ ما هو تقليدي، ليس تناغماً مع موضوعها الشائك وعوالمها المركّبة فحسب؛ إنَّما لقدرةِ علي عبد الله سعيد على إحداث الدهشة منذ السطر الأول: "هارباً من الجحيم اليوميّ".
ولتمضي لعبة السرد على مدار تسعة فصولٍ يُطارد فيها البطل هروبه إلى ما يتوق إليه وينفلت منه، إلى ما يجعلُه يُصارع مصائره بضعفه وهشاشته، بتأمّلاته الفلسفية، بتوقه المتجدّد للحبّ والامتثال الكامل للجسد، باقتحامات وتصادمات وهلوسات تتجلى في غرفٍ مظلمة، وفي شوارع تتربّص بالعابرين إلى خلواتهم في زمن الحرب، وفي دهاليز المؤسّسة بجدرانها الصمّاء ومكاتبها الضيّقة، وبموظّفيها وطقوسهم المجنونة في محاولةٍ لدرء تصدّعات الحياة."..