كتبت مدينة "الرّحيبة" قصة لم تشأ لها إلا التّحليق في السماء؛ السماء التي أعطت الحرية للصقور بأنواعها المختلفة، والأخرى المهاجرة من أوروبا إلى إفريقيا، وقد أخذت هذه القصة ومنذ زمن توجهاً جديداً عندما قرر أهل المدينة ترتيب حروف علاقتهم مع هذه الصّقور، فكانت رفيقة رحلات صيدهم تارة، ومورد رزقهم تارة أخرى.
تاريخ وهوية
صيد الصّقور لدى أهالي الرّحيبة ليس بهواية فقط، بل هو جزء من هويتهم وتاريخهم وثقافتهم، في أرضهم عُثر على مصائد لصيد الجوارح تعود إلى مئات السنين، ولم يبقَ ترويض الصّقور لديهم مجرد فنٌ قديم، بل أصبح شغفاً يتملّكهم، توارثوه من جيل إلى جيل بكل تقاليده وأصالته العربية، فهم يفهمون لغة الطبيعة ويعيشون معها بسلام، وكانت لهم فرصة العيش مع تجربة فريدة من نوعها في عالم مليء بالإثارة والجمال.
وقد اجتهد أبناء الرّحيبة في احتكار صيد الصّقور والمحافظة على أسرارها، دون خروجها إلى أي منطقة أخرى لعقود طويلة، وبات الصّقر محور حياتهم وتفكيرهم، واتخذوه شعاراً علقوه على مدخل بلدتهم تعبيراً على عراقة وأصالة هذه الهواية، إلا أنه وفي بداية خمسينيات القرن العشرين بدأت وعلى يد رجل الشيخ مسكين "أبو السكران" المقيم في الرّحيبة، تتسرب إلى بعض القرى المحيطة، وقيل إن كل من تعلم هذه الهواية ظل مرتبطاً بالرّحيبة ولم يستطيع الاستقلال عنها بشكل أو بآخر.
رحيبة الصّقور
تتعدد الأعمال التي يمارسها أهل الرّحيبة، إلا أن الأهم والأكثر حضوراً هو صيد الصّقور والتجارة بها، وقد اختلفت الأعمال المتعلّقة بالصّقور وتنوّعت ما بين قنّاص- تاجر- مشارك- ممول- صانع أدوات- خبير- سمسار- علّاف- وغيرها، لذلك استحقت "الرّحيبة" المرتبة الأولى في "سورية" في جذب محبي الصّقور والطيور الجارحة من جميع أنحاء البلاد وحتى من خارجها، وأصبحت عاصمة للصقور والصقّارين، يتوافد إليها آلاف الهواة سنوياً، وتحديداً إلى سوق الصّقور المعروف والذي يُقام خلال موسم الصّيد، حيث تتنوع المعروضات بين الصّقور والبزاة والشواهين، لتكون "الرّحيبة" وجهة مثاليّة لشراء وتبادل هذه الطيور الرائعة بحسب الصقار أحمد صقوره.
و أضاف : اشتهر أهل الرّحيبة بمهارتهم في صيد الصّقور وتدريبها، وبخبرتهم الطويلة في التّعامل مع هذه المخلوقات النبيلة، وأبدعوا فيها أيّما إبداع، وعلى مدى تعاملهم الطويل بهذه المهنة أصبحوا أهلاً للثقة ومُعتَمدين لدى محبي هذه الهواية، ويتولون جلب الصّقور وتسفيرها إلى الخليج العربي، وشبه الجزيرة العربية.
عشق فطري
تميّزت الصّقور السورية بجمال شكلها وشدة صلابتها وشراسة طبعها، ما زاد الطلب على اقتنائها فارتفع ثمنها، واجتهد صيادو "الرّحيبة" للحصول عليها، وتعقبوها حتى في أوكارها، وفي كل لقاء مع أحدهم هناك وقفة طويلة من الحديث عن الصّقور وتفاصيل حياتها من النوع إلى الصفات والموطن ومراحل الحياة وظروف الهجرة، وكذلك طرق الصّيد والتّرويض وطقوس البيع، وهذا ما كان في لقاء مدونة وطن مع الصّقار "محمود دبين" المتخصص بالأنواع النادرة والثمينة من الطيور والمحترف بتجارتها من عمر العشرين، وتميز في عمله وتجارته هذه بما يحمله في قلبه من حب وعشق لهذه الطيور الحرة، وقد جاد علينا بما في عوالم الصقور من أخبار وقصص، واستهل حديثه بحكاية هجرة الصّقور السّنويّة الطويلة والتي تبدأ في شهر (أيلول) وتستمر حتى شهر (كانون الأول)، وتأتي بحثًا عن الدّفء أو للحصول على مكان آمن يتوفر فيه الطعام والشراب، متجهةً من أقصى الشمال إلى جنوب الكرة الأرضيّة، معتمدةً على الاستشعارات الحسيّة وقدرتها الفطريّة في حساب الوقت وتحديد المكان المناسبين لها، متحديةً مخاطر الصّيد أو التّعرض للاعتداء من أنواع أخرى من الطيور، أو التّعب الذي يؤدي إلى الهلاك قبل الوصول للمكان المطلوب، ولهذه الطيور في رحلتها مسارات لعدّة دول عربية وأهمها سورية والعراق والمملكة العربية السعودية والأردن، حيث تنشط حركة الصيد فيها بطرق ووسائل مختلفة.
صيد الصّقور
يشرح "دبين" عملية صيد الصّقور ويوضح أن الصباح الباكر والفجر هو الوقت الرّئيس للصيد، حيث تكون الطيور جائعةً ومتحمسةً، ما يجعل صيدها أسهل، ويُوصى بالطقس البارد والغائم، ففي مواجهة البرد تستهلك الطيور طاقتها وتبحث عن الغذاء من جديد.
ويمكن الاستفادة من فرص المساء بصيد الطيور التي لم تحظ بطعامها طوال اليوم فتكون عرضة للوقوع في الفخ بسهولة ويتكون الفخ عادة من ثلاثة طيور حية، حمامتان هما الطعم في صندوق بقرب شبكة مربوطتان بخيط إلى يد الصّياد المختبئ داخل حفرة مغطاة بالأعشاب، وطائر غراب أو باشق، يقوم بدور المراقب الذّكي الذي ينبه الصّياد بوجود الصّقر فيسحب الصّياد خيط الحمامة لتخرج من الصّندوق وهي تُرفرف بجناحيها فتثير انتباه الصّقر، ليقترب منها فيقوم الصّياد بسحب خيط الشبكة لتنغلق على الصّقر والحمامة.
ترويض الصقور
ابن مدينة الرّحيبة "خالد عمار" الهاوي لصيد الصّقور كما الجميع، والمنتظر بفارغ الصّبر لفرصته في صيد صقره الخاص. استبقى تفاصيل التّرويض وترتيبات التّدريب في ذاكرته، متأملاً في اللحظة التي سيتمكن فيها من تحقيق حلمه، ويخبرنا بما هو مستعدٌ لعمله بعد ما يحرز صيده وهو جزءً لا يقل صعوبة عن سابق الأعمال، وهو ترويض الصّقر وتدريبه، فبعد الصّيد يتحول هذا الطّير الحر العاشق للسماء والفضاء إلى حالة الدّمار الذّاتي من رعب وضغط بسبب الأسر، فتزداد دقات قلبه وترتفع حرارته وهنا يستوجب وضعه في حفرة وردمه بالتراب ما عدا رأسه، ثم يُسكب الماء على التّراب ليهدأ الطير ويستقر ومن ثم وبعد وقت يدخل وببطء مراحل التّأقلم والاندماج مع واقعه الجديد، ويأخذ بالاعتياد على مدربه الوحيد الذي يطعمه ويدربه ويأنس له ويلتزم معه فلا يهرب منه أو يتركه، ويثق فيه. ويصبح صديقاً وفياً، يستجيب لنداءاته، ويهبط على ذراعه بثقة وود، يحلّق بجانبه في سماء الحرية والإنجازات. فالصقور والصقّارون في الرّحيبة تراثٌ نبيلٌ من الأحلام والشجاعة.