ثمة أمرٌ لافت في المشهد الثقافي السوري، أمرٌ يبدو أقرب إلى الظاهرة، وهو هذا العدد الكبير من المهندسين السوريين الذين يخوضون في مختلف الأجناس الإبداعية، ولا سيما الأدبية منها، وعلى وجه الخصوص في الشعر.

وهذا ما لمسته من خلال متابعتي للحركة الثقافية السورية على مدى يزيد على ثلاثين سنة.. فقد أفرحني هذا العدد من الأدباء- المهندسين، الذي أظنه يفوق عدد الأدباء خريجي كليات آداب اللغة العربية.. أذكر ما تقدم لأدوّن هنا تجربة لافتة هي الأخرى في هذا المشهد الثقافي، وأقصد بها تجربة الأديب محمد ياسين صبيح الذي كرّس معظم هذه التجربة في الاشتغال على فنون القصة القصيرة جداً: تقعيداً وتأليفاً وتنظيراً وحتى ترويجاً..

انعكاس

حاولَ جاهدًا نزعَ الصّورةِ عن الجدار..

من مؤلفاته

لم يستطعْ..حملَ فأسَهُ وحطَّمَه..خلفَهُ.. راحَ يُلملمُ بقايا وجهِه..

والدكتور المهندس محمد ياسين صبيح، هو أستاذ في كلية الهندسة المعلوماتية في جامعة تشرين، إضافة لتدريسه في الكثير من الجامعات الخاصة داخل سورية وخارجها.. أول ما انجذب إلى (قُصارى القول) في القصة، إلى أن تميز في القصة القصيرة جداً من خلال إصدار غير مجموعة قصصية في هذا المجال، وتأسيسه للرابطة السورية للقصة القصيرة جداً في سورية منذ ما يُقارب العقد من السنين، كما لم يكتف صبيح بفن القصة القصيرة جداً، وإنما كان من شواغله القصيدة التي لا تبتعد عن مناخات ال(ق ق ج) في إيجازها واقتصادها، إضافة لخوضه في النقد وكتابة المقالات في العديد من المواقع الإعلامية والصحف والمجلات..

الزميل علي الراعي مع الكاتب

عُلُوّ

الناقد حيدر الأديب

تقدَّمَ نحوَ قمّةِ الجبلِ الذي يخافُهُ الجميعُ..

فقدَ قدمَهُ اليُسرى؛ تقدَّمَ أكثر..فقدَ اليُمنى؛ تابعَ التّقدُّم..

فقدَ يديهِ..وعندما وصلَ إلى القمّةِ، صارَ نصفَ تمثالٍ فوقَ الصّخرةِ الأخيرة..

تتميز القصة القصيرة جداً عند صبيح بالقدرة على التكثيف للجمل والسرد، بحيث تضمر إمكانيات تأويلية كبيرة، لذلك هي تتصف بالسرعة والعمق، وبذكاء السرد الإيحائي، إنها القدرة الكامنة في الجملة السردية، التي تبرز في اختزال حركة الكلمات وترادفاتها إلى رتل من الجمل، تستخدم الكثير من التقنيات: التناص، الإضمار، الحذف، الانزياح، الإزاحة، والإحلال، وغير ذلك من تقنيات الكتابة المكثفة.. هذا الشكل القصصي لا يزال يُثير الكثير من الجدل منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، والذي يبدو اليوم وكأنه استقرّ في فضاء "رابطة" خُصصت له وحده، يرأسها اليوم الدكتور محمد ياسين صبيح، وأسأله: وهل كان الأمر يحتاج إلى "رابطة" لإسناد هذا الشكل الإبداعي – القصة القصيرة جداً-؟ فيجيب ب: نعم وذلك نتيجة الانفلات والطفرة الكبيرة التي سادت في كتابة ال"ق ق ج"، والتي كانت في الكثير منها، تبتعد عن روحيتها الكتابية، ونتيجة للتطور التكنولوجي الكبير الذي ساعد على الاهتمام غير المسبوق، ولرغبة القراء في قراءة إبداعات سريعة ومقتضبة؛ كان لا بدّ من محاولة المساهمة في خلق بيئةٍ مناسبة، تسهمُ في إغناء المقدرات السردية وتعميق تقنياتها، وفي محاولة إشراك الكتّاب والنقّاد للتفاعل المباشر والحواري، والذي كان له دور كبير في وصول الكثير من الكتاب إلى مستويات مميزة.. وبعد كل ذلك الوقت من النجاحات والتفاعل الكبير، أقول نعم كان الأمر يحتاج إلى رابطة. ويُضيف: أنشأت الرابطة أواخر عام 2013، في محاولة لإعطاء هذا الجنس الأدبي الجديد نسبياً مساحة واسعة للانطلاق بشكلٍ جدي، وللتجاوب مع الاهتمام الكبير من قبل الكتّاب والقراء العرب والسوريين خاصة، وتطوير أدوات وتقنيات الكتّاب المشاركين والاستفادة من تجارب الكتّاب المعروفين، من خلال تجربة النشر والنقد المباشر على النصوص المنشورة، ما يزيد من تعميق التجربة الإبداعية والنقدية للكاتب..

حلم

مرَّ الموكبُ أمامَ محلِّ العطارِ، لم ينتبِهْ أحدٌ إلى الصخبِ الذي نشرَتْهُ العطورُ.. لكنِّي استيقظتُ مذعوراً، وأنا فوقَ الأكتافِ،

ورحتُ أبحثُ بين الرؤوسِ المتحركةِ ..عن الكلمةِ التي قتلتني..

وفي مجموعته القصصية (ناي من ريح)، وهي تحملُ بين صفحات مجلدها ثماني عشر قصة قصيرة، تدور في رحاب الأمكنة من بحرٍ وشوارع وأسواق ومقابر.. مع رحلةِ الناي الحزين، ذاك القصب الباكي على أصله، المُجتث من حقول القصب، لينوح على شرفات الأرصفة، والشوارع وسور المنشية، ويعزفُ وجعَ الخيبةِ من حبٍّ وراء جدار، ويستنفرُّ من ثقوبِها الفرحَ الهارب من عشوائيةٍ تشكيليةٍ عبثية تنتهي بمأساة، وتبوحُ في آخر صرخاتها بوجه الريح أمام فجيعة والدٍ نسيّ أن يصنع باباً ليحرس به قبرَ ابنه المغدور الذي سطا المتنفذون على ضريحه بقوة العربدة، (فلكلِّ شيءٍ باب حتى الموت).. هنا جلسَ يبحثُ عن مترين فقط من الأرض يكونان بابَه النهائي يوماً ما، ولا بدَّ أنهما برفقة نايٍّ تئنُّ حزناً وحنيناً في حضرة الريح.

عبور

تعمُّ المكانَ الفوضَى. يدايَ على النافذة، رأسي معلقةٌ بالمشجبِ..عينايَ عندَ النهر تراقبانِ المعبرَ الوحيدَ..

قبلَ خطوتي الأخيرةِ لم أستطعْ النهوضَ من قبري.

لم يعتمد الكاتب على تقديم الشخصية ضمن مساحة جغرافية في زمانٍ معين، بل كانت الشخصيات هي القائمة بالفعل، وما تفيض من دلالات وإسقاطات من علوها المكاني وارتباطه بالحدث.. إذ نوّعَ القاصُ في وصفه لشخصياته من الداخل والخارج، فقصة (اللوحة الأخيرة) تتوزعُ فيها الأبعادُ النفسية مع شعورِ الوحدة القاتل، فجاء الوصفُ الخارجي كوصفه لذاك المخلوق الجانبي الذي يجلسُ القرفصاء بثيابٍ رثة، والداخلي لذلك الرجل، وهو يتنمرُّ على الرسام بمنولوجٍ داخلي يرافقهُ صراعٌ متنامٍ للنفس البشرية، لينتهي الحدث برحلة خلاص أخيرة تمثلت بالخروج من قوقعة الزمان والمكان وتلك الأفكار حبيسة المرسم والعقل.. كما ركّز الكاتبُ على اللون والحركة في قصصه، وذلك في عرضه عملية مزج الألوان ضمن اللوحات التشكيلية، فالاخضرار في المراعي، واليباس وما يعسكه من انكساراتٍ نفسية تنالُ الشخصيات، والحركة المتمثلة في جلسة القرفصاء، وحركة أرجل المارة وألوان أحذيتهم، وما تعسكهُ من فهمٍ للطباع والرغبات والأسرار التي تحملها رؤوسهم، وتشي بها أحذيتهم.. وكان لوحدة الأثر والانطباع الذي تركتُه كلُّ قصةٍ على حدة حضورٌ مميزٌ، وهذا ما قد ينتظره المتلقي ليحدث عندهُ متعةً ينشدها على الصعيد العقلي والنفسي.

حوار

  • لا تنتظريني عند البارحة.

  • قالها وهو يرسم نافذة في الهواء

  • "لا تنتظريني عند البارحة"

    في قراءته للقصة السابقة يقول الناقد حيدر الأديب: تشير "البارحة" إلى مكان/زمن ماضٍ، وهو مكان مغلق في المتخيل السردي، يمثل ذكريات، تجارب، أو مشاعر محفوظة في الماضي. في فلسفة باشلار، "البارحة" هي مأوى نفسي وشعري يمثّل الحنين، لكنه مأوى ميتافيزيقي يقيّد الشخصيات في نطاق محدود، لا يمكن تجاوزه بسهولة. البارحة، كمأوى شعري، هي مكانٌ للاحتماء، لكنها تُبقي الشخصية في حالة من الجمود، حيث تعيش في زمن متوقف، مغلق على نفسه وهي في هذا النص إزاحة..

    هذه العبارة تحمل في طياتها شعوراً بالحنين ممزوجاً برغبة في الانفصال عن الماضي. من منظور جمالي، العبارة تعتمد على الشعرية في الإزاحة عن الواقع؛ إذ تقترح على المتلقي فضاءً نفسياً يعبّر عن ماضي انتهى، ويدعو إلى التخلي عنه. هذا المكان الشعري يحمل جمالية الانغلاق، لكنه في الوقت نفسه جمالية تتطلب التحرر من قيد الماضي، ما يجعله مأوى شعرياً حيوياً يعكس الصراع بين الارتباط العاطفي بالماضي والرغبة في التجاوز. ويُضيف: كما تُمثّل "النافذة" هنا مكاناً سردياً ديناميكياً مفتوحاً. على ضوء باشلار، النافذة هي بوابة بين الداخل والخارج، بين الذات والعالم، بين الماضي والمستقبل. النافذة في الهواء ليست مجرد فتح مادي، بل هي إشارة إلى الإمكانية والرغبة في التحرر من مأوى "البارحة" المغلق. النافذة ترمز إلى الخيال، الفتح على عوالم جديدة، والسعي وراء الحرية والانطلاق.

    جمالية هذه العبارة تكمن في الحركة والفتح. النافذة المرسومة في الهواء ليست مجرد إشارة للخيال، بل هي حركة نحو المستقبل، نحو الاحتمالات الجديدة. من منظور جمالي، النافذة تخلق ديناميكية بين المأوى الشعري والمأوى السردي؛ إذ تنتقل من حالة الجمود إلى حالة الفتح والانطلاق. هذا الفضاء السردي الجديد (النافذة) يمثل الانتقال من التأمل الداخلي إلى الانفتاح على الخارج، ما يخلق نوعاً من التناغم بين الحلم والواقع، بين الداخل والخارج..

    وأخيراً؛ نقرأ في السيرة الإبداعية للأديب محمد ياسين صبيح:

    أولاً: الكتب الفردية الخاصة: ديوان شعر بعنوان /لا أثر لكفك على الجدار/ 2019، مجموعة قصة قصيرة جداً بعنوان /نافذة بلا جدار/ عام 2018، مجموعة قصة قصيرة بعنوان /ناي من ريح/ 2021، مجموعة قصة قصيرة بعنوان /ثقب في الريح/عام 2023، مجموعة قصة قصيرة جداً بعنوان /جرأة للفرح/ عام 2021.

    كتاب نقدي عن الرواية بعنوان/الشخصيات الثانوية في الرواية العربية/ 2023، كتاب نقدي عن القصة القصيرة جداً (القصة القصيرة جداً-رؤية تأصيلية) 2022.

    وهناك العديد من الكتب الجماعية ومجموعات شعرية ونقدية وقصصية قصيرة جداً

    الباب

    قالَ القفلُ للمفتاحِ وللبابِ:

    -أنا من يحرُسُكُمْ.. ردَّ المفتاحُ: لا جدوى مِنكُم بدوني..

    صرَخَ البابُ: أنا من يحميكُمْ.. ثمَّ دوى الانفجارِ..

    سقَطَ الحائط وصمَتَ الجميعُ..