ظلت شجرة الأرز عبر العصور شجرة مقدسة، فقد ذكرت في الكتاب المقدس أكثر من سبعين مرة، واعتقد الأقدمون أنها تطرد الأرواح الشريرة، وبقيت هذه النظرة قائمة حتى العصر الحديث، واُتخذت شعاراً في لبنان لتكون رمزاً للتعايش وللتآلف المنشود.

هذه الدلالات القديمة والحديثة أراد الأب "عبد الله الشحيد" أن ينقلها دلالات من مسقط رأس هذه الشجرة في لبنان ‏إلى بلدة "القريا" في السويداء، وأن يتخذ من قداسة الأرز قبل آلاف السنين محطة ‏وباب أماني وسعادة وجامعة بين أبناء الوطن الواحد، عبر اخضرارها الدائم ‏الباعث وفق رمزيتها الى ديمومة الحياة والعطاء.‏

من أجل ذلك لم تكن شجرة الأرز المزروعة في كنيسة "القريا" التي تبعد عن مدينة ‏السويداء نحو 17 كيلو مترا ً كباقي الشجر في الأماكن العامة والمقدسة، بل ‏أخذت طابعاً مميزاً في الهدف والرؤية والتاريخ والسلوك المعرفي.‏

احفالية الأهالي تحت ظلال الأرزة

حكاية أرزة ‏

عبدالله شحيد كاهن ‏رعية كنيسة مار مخائيل في قرية القريا

تعتبر الزراعة في السويداء عامة وفي بلدة "القريا" خاصة جزءاً من منظومة ‏مجتمع متكامل، بحيث انطبع بطباع النظام الزراعي في عمله وهدفه وإنتاجه، ‏وشكل انعكاس اللون الأخضر للأشجار على طبيعة الإنسان سلوكاً ومعرفة، ‏ما جعله يحمل قيمة العمل الإنتاجي.

الأب "عبدالله الشحيد" كاهن ‏رعية كنيسة مار مخائيل في قرية القريا، سابقا لموقع مدونة وطن eSyria.

الأب فادي زيادة ‏رئيس دير وكنيسة يسوع الملك للآباء الكبوشيين أمام الشجرة في مدخل الكنيسة

‏وتابع الأب الشحيد : "بدأت حكاية زراعة الأرز قبل ربع قرن من اليوم؛ إذ كنت ‏في رحلة الى "لبنان" وزرت منطقة "بشري الأرز" وأنا توّاق حقاً لزراعة ‏الأرز في بلدة "القريا" لأهميتها وقداسة دلالتها، وخاصة أن فيها شجراً زُرع قبل ‏ستة آلاف سنة، حيث كان الناس يعتبرونه مغروساً من قبل الرب، فهو لا يزرع إلا في ‏المناطق الباردة لأنه دائم الخضرة، بحيث اُعتبر اخضراره ديمومة الحياة ‏والعطاء المتجدد، لذلك حينما وصلت الكنيسة اشتريت غرستين بطول تراوح ‏بين 12-15 سم ..واحدة تلفت أمام باب البولمان اثناء الرحلة، والثانية ‏زرعتها في باحة الكنيسة "بالقريا" وذلك قبل ربع قرن من اليوم أي خمس ‏وعشرين سنة، أخذت تنمو نمواً طولياً حتى منحت المكان جمالاً خاصاً.‏

كيف أصبحت الأرزة مقصداً للناس ورمزاً لتآلفهم

‏يبين الأب "عبد الله الشحيد" أن هذه الشجرة المباركة المزروعة باتت مقصداً ‏لأفراد المجتمع والجامعة للتنوع الطيفي، حيث يرتادها زوار من أطياف ‏مختلفة، والأجمل أنهم يقفون أمامها وتلوح في أذهانهم الأمنيات، وكثير منهم ‏عاد لزيارتها مرات، حاملين معهم أقمشة ملونة زاهية اللون ليغلفوا بعض ‏أغصانها.

ويتابع الأب الشحيد "عملنا على إفساح المجال لزيارتها من الساعة التاسعة صباحاً ‏حتى التاسعة ليلاً، ومع بداية الأحداث التي ألمت بالبلاد قبل ثلاثة عشر عاماً، ‏طالب أهالي البلدة جميعاً بجعلها شجرة الميلاد الأولى في سورية وقام على ‏زينتها كافة أفراد المجتمع لتكون شجرة المحبة والسلام للوطن، ورسالة ‏مجتمع متكامل من عرين "سلطان باشا الأطرش" وكنيسة القريا إلى العالم ‏أجمع بثقافة العيش المشترك والمحبة، يقيناً منا بأننا بالمحبة نستطيع التغلب على ‏الصعاب وهزم الشرور.‏

ونوه "الشحيد" بأن الشجرة اليوم تنمو وتكبر ويتجاوز طولها خمسة عشر متراً، ‏وهي تغطي مساحة يتفيأ الناس تحت ظلها، لتكون مركزاً جامعاً لاستقبال ‏المحبين والزوار والأماني والتمنيات لتنامي المجتمع وأفراده، وتشكيل وحدة ‏متكاملة مجسدين وحدة التنوع في الطيف الوجداني الواحد.‏

الشجرة في عيون الناس

يوضح الأب "فادي إلياس زيادة" الراهب الكبوشي من رهبان مار فرنسيس ‏ورئيس دير وكنيسة يسوع الملك للآباء الكبوشيين أن أهمية المكان تأتي ضمن ‏كنيسة القديسة "فيرونيكا جولياني" وهي ثاني كنيسة لها في العالم؛ لأنها احتوت ‏على عظمة من جسدها ووضعت العظمة داخل المذبح، وهي أول ‏عظمة أصلية يتم الحصول عليها من إيطاليا لتكون بلدة "القريا" حاضنة لها، ‏ولهذا كنيسة القديسة "فيرونيكا جولياني"هي بركة الصلح والمصالحة عند ‏العديد من الأطياف الدينية؛ إذ كثيراً ما تخاصم بعض الشبان فيما بينهم ‏وكانت هي الشفيع؛ لأنها تعتبر تلميذة للقديس مار فرنسيس وهو المعني ‏بالصلح والتسامح والمصالحة، وبعد دخولهم وخروجهم والمحبة تكتنف ‏فضاءهم الإنساني من صلح ووفاء، تستقبلهم شجرة الأرز كرمز الثبات ‏والعطاء ونشر السلام والمحبة فيما بينهم.‏

"جميل نحلة" من أهالي بلدة "القريا" يرى أن شجرة الأرز المزروعة في ‏كنيسة القرية جعلت أبناءنا يجتمعون أمامها ويتأملون في استمرار وجمال ‏الحياة ويتمنون ما يشاؤون برغبة وإيمان، علماً أن في القريا مقامات دينية ‏عديدة، ولكن الرؤية الواقعية في انعكاس جمال اخضرار الشجرة ورمزية ‏لونها الدال الحياة والعطاء والمحبة، جعلت الناس يجتمعون تحت أفيائها كل يحمل إيمانه ‏بتنوعه، والجامع بينهم المحبة والسلام، ولهذا باتت هذه الشجرة الرابط ‏التاريخي والوجداني والإنساني بين لبنان والقريا والعالم أجمع.‏