وهب نفسه لخدمة الأهالي، مُسخّراً إمكانياته وخبرته لأجلهم، فما تعلّمه طوعاً ودون معلّم، يمنحه لكل من يطرق بابه، حتّى بات إحدى الهدايا العظيمة لأهالي المنطقة، فالهواية التي عشقها في التصليح والتصنيع وفي مختلف المجالات لا تقدّر بثمن بالنسبة لزوّاره.

"إبراهيم النزال" من أهالي ريف "القامشلي" لا يكلّ ولا يملّ في سبيل مساعدة الناس، ضمن مجال عمله وهوايته، وقد بيّن كل التفاصيل المتعلّقة بذلك من خلال حديثه مع مدوّنة وطن: «منذ الطفولة لديّ شغف واندفاع للعب بكلّ ما أصادفه، تحوّل اللعب خلال فترة وجيزة إلى تفكيك وتركيب ما أواجهه؛ لتصبحَ هواية جميلة ورائعة، حتى صار اليوم أحفادي يسيرون على خطاي ويقلّدون ما أصنعه.. الهوايةُ عبارة عن تصليح مختلف الأدوات والمستلزمات التي يستخدمها أبناء قريتي والقرى المجاورة، وأود الإشارة قبل أن أستمرّ في حديثي عن هذا الجانب إلى أن أهلي قاموا بشراء جرار زراعي وأنا في مرحلة مبكرة من عمري، كنت أرافقهم للأرض الزراعية، أراقب وأتابع كلّ الحركات، خاصةً فترة التصليح للجرار، طبعاً كانوا يطلبون مني البقاء في المنزل لصغر سنّي، لكنني رفضتُ مراراً مطلبهم، فالهواية تسيطر على كل مشاعري، وعندما وصل عمري ل20 سنة، أصبحت الهواية واقعاً جميلاً، حينما باشرتُ باستقبال الأهالي وتصليح كل ما يأتون به إلى منزلي»

أستيقظ في الصباح مرتدياً لباس العمل، وكلي أمل أن يأتي شخص يستعين بخبرتي، لا أرتاح إلا بالعمل التطوعي المجاني، أبقى في ميدان العمل أحياناً للساعة العاشرة مساء، لا يهمني ما أخذته من تعب وإرهاق وخسارة ماديّة؛ لأن السعادة تغمرني وأنا أحمّل شخصاً قطعة صُلّحت كان بأمس الحاجة لها

لم ولن يقبض قرشاً واحداً من أجل التصليح، حتّى لو كان الشخص غنياً، فقد عاهد نفسه أن يكون عمله خالصاً لوجه الله، وأكثر من ذلك يؤمّن كل مستلزمات عمله من جيبه.

زواره بشكل يومي

بعد فترة وجيزة من إعلان "النزال" مباشرة عمله التطوعي، قبل أربعين سنّة بالتمام والكمال، قرر ما يلي: «خصّصت غرفة من منزلي لعملي؛ لأن العمل بات يومياً، وازدادت القطع عندي، فاحتجت مكاناً خاصاً، طبعاً وصل عدد القطع للآلاف؛ لأنني كلما اشتغلت في الجرار أو أي قطعة أخرى تكون هناك قطع زيادة، أضعها في المحل ليستفيد منها شخص آخر يزورني لإنجاز عمله، ولا يقتصر العمل على مجال معيّن فكل قطعة تصلني أشتغل بها لا أسلمها إلا جاهزة، وإذا استعصت أستعين بأهل الكار، المهم أوفر على صاحبها الذهاب للمنطقة الصناعية بالقامشلي؛ لأن اجرة السيارة لوحدها لا تقل عن 100 ألف بين قريتي والمدينة، فهناك الكثير يستعينون بي لأذهب إلى قريتهم، لعدم القدرة على الوصول إليّ، وأنا بدوري لا أتردّد بل أستعين بسيارتي آخذاً موادي معي، فأنا لدي كل مواد العمل بما فيها المثقب وجهاز اللحام والمولدة والمنشار والجرخ وغيرها الكثير. عمري اليوم يصل لستين سنة، وأنا مريض واستخدم دواء يومياً، وجاء مرضي نتيجة دخان اللحام وغيره من الأمور، مع ذلك ما زلت مستمرّاً، طبعاً في عملي أحياناً بعض المغامرة، نتيجة وصول أدوات إلي فيها من بقايا المحروقات، ربما من خلال اللحام تسبب أذى لصحتي، لذلك أقوم بجهد إضافي وعمل كان من المفروض أن ينجزه صاحب القطعة، كغسيل تلك القطعة التي تحتوي محروقات بشكل جيد».

العمل التطوعي نشوة كبيرة في داخله؛ لذلك يرفض طلبات أبنائه بترك العمل بعد مرضه، وأحياناً يرفض تناول الطعام معهم لوجود عمل تحت يده، وأكثر من ذلك يترك العمل بجراره الزراعي إذا زاره شخص يبحث عن مساعدته، هذا ما قاله "سالار عيسى" من أبناء المنطقة.

غرفة العمل

يضيف النزال: «أستيقظ في الصباح مرتدياً لباس العمل، وكلي أمل أن يأتي شخص يستعين بخبرتي، لا أرتاح إلا بالعمل التطوعي المجاني، أبقى في ميدان العمل أحياناً للساعة العاشرة مساء، لا يهمني ما أخذته من تعب وإرهاق وخسارة ماديّة؛ لأن السعادة تغمرني وأنا أحمّل شخصاً قطعة صُلّحت كان بأمس الحاجة لها».

"نصر عبدي" من أهالي قرية "تل معروف" المجاورة لقرية "النزال"، أكد أن العمل الذي يقوم به "إبراهيم" يستحق التقدير والاحترام، خاصة أنه بالمجان وتطوعي، فالإنسانية بأعلى درجاتها، ومحبة الناس ومساعدتهم عنده غايته وهدفه، إضافة إلى ما ذكرت، فهو شخص نبيل ومتواضع وسمح وسلس، وأكثر من ذلك، إذا زرته من أجل إصلاح قطعة ما، فإنه يقوم بواجب الضيافة على أكمل وجه، فهو رجل طيب ونادر في زمن صعب.

مع مراسل مدونة وطن

مدوّنة وطن "eSyria" بتاريخ 1 تشرين الثاني 2024 زارت قرية "شيبانية نايف" في ريف "القامشلي" وأجرت اللقاءات السابقة.