لا شيء يقتل الموهبة الحقيقية لا السنين ولا مشاغل الحياة، وخاصة إذا كانت الموهبة نشأت مع طفولة الإنسان، كما في حالة الفنانة الفطرية مناصف حويجة.
مناصف التي تخطت سنوات عمرها ال72 عاماً ولامست تجربتها فنون شتى، تتذكر أنها بدأت الرسم بقلم الرصاص والألوان المائية مذ بلغت السادسة من عمرها، ثم الألوان الزيتية، ولم يمنعها تقدمها في السن من الفن والإبداع وتشكيل تحف فنية من مخلفات البيئة التي تمثل المرأة والطبيعة والتراث، ومن حياكة الصوف بسنارة وعلى النول، فكست عائلتها وسوقت الفائض منه لتدعم أسرتها في معيشتها، حتى وصلت خارج الحدود، وشاركت في معارض محلية وحظيت باهتمام شعبي وإعلامي.
حكاية أول لوحة
وتروي الفنانة "مناصف" المولودة في "سلمية"، عام 1953لمدونة وطن عن حكاية بدايتها الأولى ضاحكة بخجل الأطفال:
"غافلت أخي "محمد" الذي أكبره بثلاثة أعوام وهو نائم واستعرت ألوانه المائية التي ابتاعها أبي له ورسمت الفنانة "نجاة الصغيرة" بلوحة جدارية كبيرة تأتي على قياسي كطفلة بلغت ستة أعوام، ولكن أبي عاقبني ومزق لوحتي، وانطلقت بعدها لأتحدى ظروفي ولأثبت أن الفن ليس حكراً على من درسه وتخرج من أكاديمية، ولأثبت للجميع أن الفن موهبة لا تعرف الراحة ولا يمنعها أحد من الظهور"
أعمال فنية من توالف البيئة
لم يتسن لمناصف أو أم نبيل كما يناديها معارفها أن تكمل دراستها فلم تستطع أن تحصل على الشهادة الإعدادية، ما جعلها تعتبر نفسها أمية، لقد كان هاجس الفن أقوى من أي شي آخر لديها، فيناديها لتترك القراءة وتقوم بالرسم أو تشكل لوحة أو مجسماً.
تلفتت مناصف حولها فوجدت في البيئة مواد أولية لأعمالها فاستعانت لهذا الغرض بأوراق الأشجار والزهور التي تقوم بتجفيفها، والأسلاك الناعمة في محركات المسجلات القديمة وخيوط القنب من أكياس الأرز وحبوب القمح والعدس والبذور والفخار وقشور البصل وعبوات المياه الغازية، حيث تجمعها أو يحضرها لها الأصدقاء"
من الرسم الزيتي إلى أسلاك النحاس
تعكس أعمال مناصف تنوعاً شديداً مرده تعدد الخامات التي تستخدمها، فمن أسلاك النحاس والخرز لتكوّن باقة ورد، إلى الألوان المائية والزيتية والتي استخدمتها لترسم لوحات من الطبيعة عبّرت عن امتداد روحها التواقة لجمال الخالق، والطبيعة الصامتة التي تجسد الظل والنور.
ولم توفر مناصف أي مادة وقعت عليها، فصنعت من الصور الشعاعية علباً للمناديل، ومن الشموع ومواد البلاستيك أشكالاً متنوعة، ومن أعواد خفض اللسان الخشبية مزهريات، وأعواد المثلجات حتى الطوابع البريدية القديمة شكلت منها لوحة فنية، ومن الحصى شكلت لوحة عن معاناة الشعب السوري والهجرة، مثل مجسم البئر والدلو، والعربات التي تجرها الخيول، والأحصنة التي تدرس القمح، ومن السنابل باقة في المزهريات، ومجسماً من علب الكبريت، إضافة لحياكة أغطية للطاولة والطربيزات وصناعة الألبسة الصوفية.
شاركت مناصف في معارض محلية لتعرض موهبتها في عدة أماكن من الحمام الأثري، وصالة المجلس المحلي الذي يدعم المواهب والنساء المعيلات المنتجات.
تسويق المنتجات بأسعار مناسبة
بعد فترة وجدت مناصف أن موهبتها يمكن أن تشكل لها باباً لكسب الرزق وليس فقط لممارسة الهواية، وتقول عن ذلك: "ألبست أطفالي من صنع يدي، وكان زوجي يبيع الفائض منه لدعم الأسرة، ولا سيما أني أنجبت ستة أولاد وزوجي موظف في معمل الغزل والنسيج ودخله لا يكفي لإعالة الأسرة، وجميع الأولاد يتعلمون ويحتاجون للمصروف، وأما أعمال المجسمات فكانت هدايا للذواقة، أو يشتريها المسافرون كتذكارات، ولا سيما أني بعتها بأسعار مقبولة تناسب ذوي الدخل المحدود".
شهادات حيّة من عائلتها وعشاق فنها
"عبير الساروت"، أربعة وأربعون عاماً، ابنة "مناصف" تقول عن شغف أمها في الفن: "فتحت عيني في حديقة أمي التي تزرع الورود والأشجار المثمرة على مساحة 300 متر مربع، تقطف منها وروداً وتجففها، وتصنع لوحاتها الجميلة، ولأني عشقت أعمالها تابعت دراستي في الفنون النسوية وأصبحت أعمل لوحات على منوال أعمالها، كطواحين الهواء وراقصة الباليه، ولوحات أدخلت لها مادة الصوف، وعرائس من خيوط القنب".
مهندس الاتصالات "حسن الملوحي"، واحد وستون عاماً، يروي كيف تعرّف على مناصف قائلاً:
"عرفت "أم نبيل" منذ شهرين عن طريق ابن عمي "مظهر ملوحي" المغترب في "أستراليا"، عندما رافقته لزيارتها للاطلاع على أعمالها، لقد أصابتني الدهشة لروعة ما تصنع من مخلفات البيئة ولوحات الرسم والتطريز والعرائس المكسوة بريش الطيور أو خيوط القنب، كل شيء كان إبداعياً، وراعني أنها فنانة لم تنل حظها من الاهتمام، فقمت بالاتصال بزميلي الناشط الإعلامي "عبد العزيز شمالي" لتسليط الضوء عليها، وكان ذلك، إنها تستحق كل أنواع الدعم لأنها فنانة وإنسانة مكافحة وأم مثالية وأنموذج للمرأة الراقية التي تقضي جل وقتها في هوايتها الفنية، ودعم أسرتها، ورغم أنها امرأة لم تنل حقها في التعليم إلا أنها متكاملة السجايا، وكريمة تمنح أعمالها هدايا لزوارها إذا كانوا غير قادرين على شرائها".
المهندس "عبد العزيز شمالي"، متقاعد من مديرية الاتصالات، وناشط إعلامي على التواصل الاجتماعي، من مواليد "حماة" 1967 يتحدث عن موهبة " مناصف أم نبيل" قائلاً:
"اتصل صديقي " حسن الملوحي" المعجب بأعمال "أم نبيل"، وفعلاً خرجت من "حماة" قاصداً الفنانة وقد أدهشتني أعمالها بقشور البصل الأبيض والأحمر الذي صنعته زهوراً جميلاً، ولوحاتها المرسومة بريشة مبدعة، كان اللقاء قصيراً، لم يفها حقها وسأقوم بزيارة أخرى لأوثق طريقة صناعتها وتجسيدها من خلال بعض هذه الأعمال".
المهندس الزراعي "محمد حويجة" شقيق "مناصف" أضاف :
"شقيقتي مشروع فنانة رائعة، لكن الظروف المادية لم تساعدها، ولم تقدر موهبتها، جل اهتمامها كان في بناء الأسرة، ورغم كل ذلك فقد رسمت بريشة عاشقة للحياة ومناصرة للمرأة المظلومة اجتماعياً، وهي خلاقة تصنع من لا شيء أشياء فنية ومن نفايات البيئة، رغم تقدمها بالعمر فلا تزال تعطي عطاء الشباب".