صناعةُ القش حرفةٌ عريقةٌ موغلةٌ في القدم اختصّتْ بها بلاد الشام لتوافر ‏المادة الخام، ولا سيما بعد حصاد حقول القمح والشعير متراميةِ الأطراف، ‏ولكنَّها في زمننا الراهن تراجعتْ أمام زحف البلاستيك المُصنَّع، باستثناء تجاربَ هنا وهناك تقاوم هذا الزحف وهيمنته على الأدوات المنزلية ‏ووسائل الاستخدام اليومي.‏

ومن هذه التجارب التي لا تزال متمسِّكة بصناعة القش وتكوينِ قطعٍ ‏للاستخدام الشخصي وللزينة، يحضرُنا السيدة فايزة فيصل من قلب الرّيف ‏الشمالي للسويداء في بلدة "شقا"، التي استطاعت أن تحوِّل شغفها إلى ‏إنجاز، وأن تحيي تراثًا مُهدداً بالاندثار، ولتنسجَ من القش تحفاً فنيّة تعكس ‏جمال الطبيعة وعراقة التّراث.‏

اكتشاف الشّغف وإحياء التّراث

فايزة أثناء العمل

ورثت "فايزة" حبَّها لصناعةِ القش عن والدتها، حيث كانتْ تقضي ساعاتٍ ‏طويلةً تراقبها وتعمل بمهارة على تشكيل القش وإبداع الأشكال الفنيّة الجميلة. ‏ومع مرور الوقت، تعلمتْ هذا الفن وأصبحَ مشروعَها، وقرَّرتْ من خلاله ‏الحفاظَ على تراث بلدها وإبراز جماله.‏

نما تعلّق فايزة بصناعةِ القش خلال فترة انضمامِها لبرنامجِ المرأة الرّيفيّة ‏وعملها في مشروعها "حلويات بلدي"، والذي استمرّتْ فيه لمدة خمس ‏سنوات، وقد تحدَّثت "لمدونة وطن" عن هذه المرحلة وعن مشاركتها ‏بمنتجاتِ هذا العمل في معارضَ آخرُها مهرجان "القلعة"، حيثُ ‏لاحظتْ غياباً ملحوظاً لأعمال القش في كلِّ المعارضِ واللقاءاتِ الحرفيّة.‏

من أعمال فايزة

هذه الملاحظةُ من فايزة شاركَها بها حرفي الضغط على النحاس "أحمد ‏راتب الضعضي"، وسألها عمَّا إذا كانتْ من مشجعي إحياء هذا التراث ‏المهمّ والمهدد بالاندثار، وما يمكن أن تقدّمه من مشغولات مميزة، وما ‏تستطيع عمله بشأن التعليم والتدريب على هذه الحرفة، وفي لحظتها لمعت ‏الفكرة في ذهنها، وبدأت معها مرحلةَ عمل بهدف جديد، ضمنته في ‏مشروعها "عبق الماضي".‏

تجاوز آثار استخدام التقانة على نوعية القش

منتجات متميزة من القش

لم يكن قرارُ العودة إلى عبق الماضي بجزيئات موروثة بالقرار السهل، ‏ولا سيما أنَّ طغيان الحداثة والتّطور في عمليات الحصاد أثّر بشدة في ‏نوعية خامة القش، حيث أوضحت الحرفية "فايزة" أن استخدام الحصادات ‏الحديثة حال دون الحصول على القصل وهي عيدان القمح اليابسة بعد ‏قطف سنابلها، ما دفعها إلى زراعة القمح بأرضها وحصاده يدوياً وتجميع ‏قصله وحزمه وتلوين أجزاء منه بألوانٍ طبيعيّةٍ تُبقي على حساسية القصل ‏وتجعله مناسباً للاستعمالات اليوميّة بأمان.‏

بعد ذلك قامت فايزة بزراعة ثمار لتحضير ألوانٍ طبيعيٍّة، مثل ‏الشمندر والكركدي لزوم اللون الأحمر والعصفر لزوم اللون الأصفر، كما ‏قامت بخلط الألوان لتحصل منها على ألوانٍ أخرى، وعمدتْ إلى تسجيلها ‏لتحتفظ بها وتبقى في ذاكرتها، كما أنَّها استخدمتْ مكوِّنات طبيعيّة أخرى ‏للحصول على التّنوع في الألوان مثل القهوة.‏

حتى الحشوة اللازمة في العمل جعلتها طبيعيةً فكانت من بقايا قصل القمح ‏أو أعواد الزيتون أو قشور الجوز الرّفيعة الطرية.‏

وسام الإبداع لصناعة جرة القش الكبيرة

استمتعتِ الحرفية "فيصل" بكلِّ لحظة عمل لها، وبكل غرزة مخلّة (مسلّة) ‏رسمتْ عبرها مع القصل وحشواته تلك الرّسمات النّباتيّة والهندسيّة التي ‏انطبعت في مخيلتها أو تلك الحروف التي أسقطتْها على الورق؛ لتكونَ تلك ‏المشغولات القشيّة الجميلة والتي أضافت إليها مع الدّائري القطع البيضويّة ‏والتّربيعيّة، وهناك ما اجتهدت فيه ولأشهر عدّة لصناعة جرة القش الكبيرة ‏والتي جاءتْ تحفةً فنيّةً استحقت عليها وسام "الإبداع الذهبي"، كذلك ‏صنعت مهباج القهوة العربية الأصيلة.‏

كان لهذه الأعمال الفنيّة الجميلة صدى كبير على منصات التّواصل ‏الاجتماعي، حقَّقت عبرها تفاعلاتٍ كبيرةً، وكذلك كانتْ رحلة المشاركة في ‏المعارض واللقاءات الحرفيّة المختلفة، ما جعل حضور هذه الحرفة مطلوباً ‏من الذّواقين والمهتمين بالتراث عامة وبأعمال القش خاصة، فتعاقبت ‏الطلبات وكَثرتْ حتّى إنَّها وجدت مكاناً لها في ألمانيا وهولندا وفرنسا ‏والعراق كذلك في الصين.‏

كما كانت هناك حصّة من الحضور لأعمال القش بين الشباب ومحطّات في ‏حياتهم، حيث لبّت الحرفية "فايزة" رغباتهم على اختلافها، فالمهندس ‌‏"رامي أبو رسلان" أراد لضيافة حفل تخرّجه سلّات قش صغيرة، فقدَّمت ‏مقترحات جميلة لتصاميم مختلفة جاءت مع التنفيذ تحفاً فنيّةً، لاقت الإطراء ‏الكبير من الحضور.‏

وهناك تجربة مختلفة مع أستاذ جامعي، حيث أراد دراسة فكرة إمكانية ‏مواكبة تراثنا والتطبيقات الهندسية، وكانتِ النتيجةُ طبقَ قش مفرغاً بأشكال ‏هندسية متنوعة.‏

القشُّ واندماجه بالتّطبيقات الهندسية

دمج القش بالهندسة تجربةٌ برويها لنا "قاسم القلعاني" زوج الحرفية "فايزة ‏فيصل" الذي كان خيرَ داعمٍ ومشجّعٍ، ولم يتأخر مرة في المساعدة، وخاصَّة ‏في العمل الذي طلبتْه الجامعة، حيثُ كان ذلك ممكناً بحكم طبيعة عمله في ‏مجال البناء، موضحا أنّ هذا العمل تضمَّن مجموعةً من الأشكال الهندسية ‏من الدّائرة الكاملة ونصف الدائرة والمربعة والتي تتجمَّع فيما بينًها مع ‏التّفريغ الذي لم يسبق أن كان موجوداً في أطباق القش سابقاً، وقد تحقَّقتْ ‏جودة العمل بإدخال أسلاك "النّحاس" في العمل لتعطي القوام الثابت للطبق، ‏والذي اكتمل بتجميع الأشكال الهندسية والتي صُنعتْ كلّ واحدة على حدة ‏ووفق التّصميم المعتمد. ومع إنجاز هذا الطبق قدَّمتِ الحرفية فايزة قطعةً ‏تراثيّةً تواكب التّشكيلات والتّطبيقات الهندسيّة.‏

نقل الشغف بالقش إلى الأجيال ‏

بعد بداية إعادة إحياء هذه الحرفة عند الحرفية "فايزة" انطلقت لاجتياز ‏حدود الإبداع الفردي، وحرصتْ على نقل شغفها ومعرفتها إلى الأجيال ‏القادمة، فنظّمتِ العديد من الدّورات التّدريبية في مختلف المناطق، مستهدفةً ‏فئات الشباب والشابات وذوي الاحتياجات الخاصة والتي كانتْ أحبَّها إليها، وقد حقَّقت هذه الدورات نجاحاً كبيراً، حيث تمكن المتدربون من إتقان ‏أساسيات صناعة القش وتطوير مهاراتهم الإبداعية، رغم صعوبة العمل ‏وندرة مستلزمات هذه الحرفة.‏

اليوم، ومع كلِّ قطعة قش صنعتها "فايزة"، فإنها ورغم التّحديات لا تصنعُ ‏مجرّد تحفة فنية، بل تبني جسراً يربط الماضي بالحاضر والمستقبل.‏