رغم الحداثة التي طرأتْ على وسائل النقل الجماعي، وتعدّد وسائل الرفاهية داخلها، يستمرّ العم "أبو فواز" في قيادة باص "السكانيا" منذ 60 عاماً مسجِّلاً حضوره كأكبر سائقي ما يعرف بباصات "الهوب هوب" الحاليين في مدينة "حمص"، وليصبحَ علامة فارقة في شوارعها.
رفقة عمر مع الباص
داخل باصه الفريد مصادفةً دون موعد مسبق أثناء صيانة "ماكينة السكانيا" - كما يحب أن يناديها التقتْ مدونة وطن "eSyria" مع العم "أبي فواز وليد مندو" – حيث قال: «هذه "الماكينة" اشتراها والدي الراحل في عام 1960 وعمل عليها برفقة شقيقي الأكبر لمدة 4 سنوات، وهي الآن بالنسبة لي رفيقة عمر منذ 60 سنة، والذكريات التي تجمعني معها لا يمكن حصرها، فقد أصبحت بمنزلة أحد أبنائي، ولم أفارقها يوماً خلال تلك السنين الطويلة، ولم أسمح لأحد أن يقودها بدلاً مني على الإطلاق منذ تولّيت قيادتها ولغاية يومنا هذا».
هذه "الماكينة" اشتراها والدي الراحل في عام 1960 وعمل عليها برفقة شقيقي الأكبر لمدة 4 سنوات، وهي الآن بالنسبة لي رفيقة عمر منذ 60 سنة، والذكريات التي تجمعني معها لا يمكن حصرها، فقد أصبحت بمنزلة أحد أبنائي، ولم أفارقها يوماً خلال تلك السنين الطويلة، ولم أسمح لأحد أن يقودها بدلاً مني على الإطلاق منذ تولّيت قيادتها ولغاية يومنا هذا
ويسهب أبو فواز في شرح المواقف التي جمعته مع حافلته قائلا: «حافظت على نظافة مظهرها الخارجي والداخلي على الدوام، لذا أصبحت عملية الاعتناء بها من عاداتي اليومية. كان لون صندوق الباص أخضر حينها، وبقي على ذلك الحال حتى عام 1979 حيث حدَّثته بالكامل وغيَّرت لونه إلى ما هو عليه الآن. عملت على خط /حمص - دمشق/ طوال 40 سنة وكنتُ حريصاً على انتظام وقت الرحلات عليه، وكلُّ من تسنّى له تجربة الركوب معي كان يدرك ذلك الأمر؛ لأنني كنت حريصاً على وصول الركَّاب إلى مقاصدهم في الوقت المحدَّد، فجلُّهم كانوا من الموظفين وأفراد الجيش ولم يحدث يوماً أنْ تأخرت عن وقت وصولي».
ذكريات مع الكراجات المتنقلة
كان العم "أبو فواز" ينطلق من منزله، عند الساعة 4 فجراً متَّجهاً صوب "كراج" الانطلاق الذي تغيَّر مكانه عدَّة مرات - كما جاء على لسانه - وهو يسرد شريط ذكرياته متابعاً: «كان "الكراج" في فترة الستينيات على طريق "حماة" ومن ثمَّ انتقل إلى جانب سوق الهال القديم في حي "جورة الشياح"، وبعدها انتقلنا إلى كراج "أبو سميح محرم" بجانب جامع "خالد بن الوليد" وكان ذلك في سنة 1965 - على ما أذكر - وبقينا فيه حتى العام 1972 لتنتقل الباصات إلى "الكراج" الذي تمَّ إنشاؤه حينها بجانب المطاحن. عدد الباصات التي كانت تعمل على الخط 16 باصاً فقط، ومن ثمَّ ارتفع عددها إلى 40 في سنة 1975، ولاحقاً 60 باصاً في عام 1980، واظبت على عادة الانطلاق، في تمام الساعة 5 صباحاً، والوصول إلى كراج "الشام" عند الساعة السادسة والنصف تماماً، ومن ثمَّ العودة إلى "حمص" على الفور؛ كي أضمن وصول ركَّابي إلى أعمالهم دون تأخير؛ لأنني لم أكن من روَّاد الاستراحات على الطريق وكنت مقدِّراً لظروف الناس وترقُّب وصولهم إلى أعمالهم دون تأخير. كانت لديَّ رحلتان ذهاباً وإياباً بشكل يومي عدا يوم الخميس الذي كان يشهد حركة نقل أكثر، حيث كنت أقوم بثلاث رحلات غالباً».
من أين أتت تسمية الهوب هوب؟
لتوصيف "الهوب هوب" حكاية طريفة عاصرها العم "أبو فواز" ورواها لنا عند سؤالنا عنها بقوله: «أصل الوصف جاء من خلال أحد المعاونين الذي كان يعمل على باصات /حماة – دمشق/، حيث كان ينادي على السائق طوال الوقت؛ كي يتوقف فجأة من أجل صعود راكب على الطريق إلى الباص وبالعكس وقت إنزاله، وفي أثناء جلب الركَّاب نحو الباص أثناء التهيؤ للانطلاق داخل الكراج وهكذا انتشرت العبارة سريعاً لتصبح علامة فارقة التصقت بباصات "السكانيا" منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا».
إصلاح أعطال باصه شخصياً
ما زال العم "أبو فواز" يحافظ على عادة الاعتناء يومياً بباصه، من خلال تفقُّد حالة المحرِّك، بشكلٍ مستمرٍ والقيام شخصياً بإصلاح أيِّ عطل يطرأ عليه، مستفيداً من كونه صاحب خبرة طويلة في مهنة "الميكانيك" قبل أن يبدأ عمله كسائق له - حسب ما ذكر لنا – عدا عن أعمال الصيانة الثقيلة التي تحتاج لآلات تنزيل ورفع المحرِّك - إن لزم الأمر - وكلُّ ذلك إنما يجري تحت إشرافه المباشر. إلى جانب الحرص على نظافة الباص من الداخل والخارج وبشكلٍ يومي، مستخدماً لذلك الأمر ورق الصحف الذي افتقده بعد إيقاف صدورها ورقياً!!.
لم يقبل العم "أبو فواز" ركوب موجة التحديث التي طالت عديد باصات "الهوب هوب" التي كانت تعمل على الخطوط بين المحافظات، وفضَّل المحافظة على "ماكينته" التي قضى برفقتها 40 سنة؛ لينتقل إلى العمل على نقل الموظفين في شركة "الوليد للغزل" منذ نحو عشرين عاماً، ولغاية يومنا هذا، مسجلاً حضوره كأكبر سائقي الباصات عموماً في مدينة "حمص" وواحداً من أربعة مالكيها مع "سليمان عكاش" و"رشيد ظنطح" وشخص من "آل بلاسم"، وجميعهم حالياً يعملون في نقل موظفي الشركات والمعامل. هذا ما ذكره لمدونة وطن "eSyria"».
شهادة من زميل قديم وابن مصلحة
بعد بحثٍ طويل وصلنا للقاء أحد زملائه القدامى "عبد اللطيف ظنطح" حيث تحدث عنه لمدونة وطن "eSyria" قائلاً: «عرفته عن قرب منذ نحو 60 عاماً، ويعد من السائقين الذين يتمتعون بحرفية عالية وكما يقال (ابن مصلحة) بكل معنى الكلمة، من ناحية أسلوب القيادة الرزين، ومعرفته الدقيقة بأمور الميكانيك والصيانة. منذ أن تولَّى قيادة الباص بعد أخيه الراحل "خالد" حافظ على سيرته الطيبة بين كل السائقين وحتى الركَّاب الذين عرفوه، فقد كان دقيقاً، وملتزماً بمواعيده، ومواظباً بشكلٍ يومي على الاعتناء بآليته والمحافظة على جماليتها من الخارج والداخل حتى وقتنا الحالي، وهذا يعكس احترامه لمهنته أولاً، ولمن كان يقصد الركوب معه». نذكر بأن "وليد مندو" من مواليد 1941 متزوج ولديه ثمانية أبناء.