أن تكون شاعراً، ويكون لك أخ بحجم الشاعر الراحل (رياض الصالح الحسين)؛ فالأمر ليس هيناً أبداً، بقدر اعتزاز المرء أن يكون له أخاً مبدعاً بقامة الراحل رياض (1954-1982)، ذلك الشاعر الذي اختار درباً وسطاً بين نزار قباني ومحمد الماغوط، ثمّ كان ندّاً لهما، رغم الحيز الضيق من السنين التي منحتها الحياة لرياض الصالح الحسين، غادرنا مبكرا جداً، بأربع مجموعاتٍ شعرية، صدرت الرابعة بعد وفاته، تاركا خطه الشعري، الذي سار على دربه – رغم قصر مشروعه الشعري – المئات ممن كانت القصيدة مناخاً لإبداعه.

وغاية هذا (التدوين) اليوم ليس الشاعر الراحل رياض، وإنما شقيقه أكرم الصالح الحسين، حيث فرضت الذكرى نفسها دون إذنٍ من أحد، وليس غايتها المقارنة أبداً، وربما من الخطأ إجراؤها، وإن كانت تأتي عفو الخاطر عند ذكر الشقيقين.

وعلى ما يبدو فإنّ أكرم انتبه مبكراً لمثل هذه (العفوية) في المقارنة، فكان كغيره من العشرات بل المئات من الشعراء العرب والسوريين الذين تأثروا بمساحةٍ ما، من إبداع الشاعر الراحل، محاولاً أن يبقي الأمر في حدود التأثر المشروع، دون أن يصلَ إلى المحاكاة، فكان ديوان أكرم الصالح الحسين، الذي أنجز منه إلى اليوم أربع مجموعات شعرية خائضاً في مناخات الموجة الشعرية السورية التي مازالت تتبلور منذ نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة إلى اليوم، أي منذ الحرب الكبرى على سوريّا والتي لاتزال تخوضها على الصعد والجبهات كافة..

الكاتب عماد نداف و الناقد بكّور عاروب

كانت قصيدة أكرم وإن كان لها مرجعيتها "الرياضية" – نسبة لرياض – غير أنها بقيت مرجعية بنائية، أو مبنية عليها، لكنها القصيدة (الآن وهنا)، التي تتلمس ملامحها من كلِّ ما يُحيط بها..

فأكرم صالح الحسين (1970)، لديه ثلاثة دواوين (نثر)؛ هي: "ظلال متعبة" 2022، و"مغلق"، و"كمأة" 2024، وديوان رابع في المراحل الأخيرة تحت عنوان "عابرون في التّرهات"، إضافةً لأربع دواوين الكترونية منشورة، ومجموعة قصص قصيرة قيد الانتهاء تحت عنوان "أحاديث جانبية".

الزميل علي الراعي والشاعر الحسين

وفي هذه الأعمال الشعرية كتب الشعر الموزون والتفعيلة، كما شارك في أكثر من كتاب مشترك كان آخرها كتاب أنطولوجيا "أنا غزة ابنة فلسطين" مع عدد من الشعراء العرب والأجانب، وهو من اعداد الدكتور محمد حلمي الريشة، وقد ترجم الكتاب لأكثر من لغة.

عماد ندّاف.. تجربة أكرم تنتمي إلى موجة السهل الممتنع

من مؤلفات الشاعر الحسين

يقول الأديب عماد ندّاف عن هذه التجربة: ينضم الشاعر أكرم الصالح الحسين إلى موجة الشعر الجديد الذي يلاقي رضا في نفوس القراء، وسمّاه البعض بالسهل الممتنع، لأنه يحمل المعنى بسلاسةٍ من دون الغوص في بحيرة الغموض الشعري التي يشتغل عليها كثيرون، فيرسمون بناءً للقصيدة لم يستطع تشكيل جمهوره الواسع.

وفي تجربته الشعرية المنشورة في وسائل الإعلام ثم عبر دواوينه الشعرية، لفت الشاعر أكرم الصالح الحسين النظر إلى مجموعة معطيات تتعلق بالمضمون الشعري الذي يرتدي كسوة النثر، إضافة إلى شفافية العبارة عنده، وجعلته هاتان المسألتان يندفع إلى تشكيل مكان لمدينة فاضلة يبحث عنها هي (مدينة الحرية) فمدينتي كما يقول:

"تطلع كلَّ ليلة

لتمشطَ المواعيد،

تخبئ في جعبتها

عصافير أرعبتها التفاصيل،

عناقيد عنبٍ تنتظر الأغنيات

وشفاهاً تلهج بالبكاء؟"

ولأنه يُمثّل كشاعر روح الإنسان المقهور، فهو يعتبر هذه الروح جزءا من المدينة التي يُحبّها، وتصبح المدينة المقهورة وعاءَ النفس البشرية في أقسى ظروفها:

"مدينتي!

مطفأةٌ تماماً

مقتولةٌ تماماً،

موهوبةٌ بكارتها، للعابرين.."

تماما كما وصفها أدونيس قبل خمسين عاما (امرأة تفتح فخذيها للريح)، لكنها عند أكرم الصالح الحسين مقيدةً مكسورةً تماماً كمريم المجدلية، لذلك يسعى في محاكاة ذاته إلى التأكيد على مسؤوليته أيضا كجزء من المدينة / القفص، لكنه لا يلبث أن يعلن عن عجزه:

"الهارب من ذاته،

يقفزُ بنصف جسد،

بنصف قلب،

والقليلِ من الأغنيات،

والكثيرِ من الأحرف المتعبة..

تباً له.. يحاولُ أن يقولَ شيئًا

دونَ فائدة.."

ويفرض الحضن المكاني والزماني نفسه في ظروفه وتداعياته وأثره على العنصر الأول في المجتمع، وهو الإنسان، فلماذا يعلن أكرم الصالح الحسين الحجب عن الآخر، ليس كصوفيٍّ يذهبُ للتعبّد في أعلى جبل، وإنما كمتمردٍ يحتجُّ على قيده، فيغلق الباب على نفسه:

"مغلقٌ أنا

قفلٌ استوطنه الصدأ

حطم أسنانه،

وتركه باكياً، يتوسلُ باباً مهجوراً

تحت كومةٍ من الركام!"

هل فقد الشاعر أكرم الصالح الحسين الأمل تماما؟ - يُضيف نداف - هل تبدو الصورة الفجائعية للقفص المقفل على الروح والجسد قادرة على تشكيل بصيص النور الذي يبحث عنه الإنسان؟ الجواب بالنفي، فلايبدو ذلك ممكناً، لأنه يتابع في قصيدته راسماً معالم هذا البصيص على نحو متشائم هو البحث عن نهاية:

"بعد قليلٍ؛

سأبحثُ عن مخرجٍ جديد،

عن أنشوطة متينة

تحتملُ هذا الجسد الثّقيل."

إذن نحن في قفص يعيش حالتين (الداخل مغلق)، و(والخارج مغلق)، وعلى سيرة الإغلاق على هذين المستويين، يهربُ الانسان في تجربة العزلة والعزل معاً إلى حبالٍ يتعلقُ بها، ومن هذه الحبال هي: المرأة/ الحب/ الحياة/ النبض، فهل عملت المرأة في هذا الإطار ما ينبغي عليها أن تقوم به؟ لنسمع أكرم الصالح الحسين:

"تقولُ الأسطورةُ:

إنّ امرأةً بلون الغسقِ،

ترسمُ الدروبَ،

تغني كلَّ ليلةٍ شجرةُ كرزٍ..

ترقصُ على صوت الحفيف..

امرأةٌ

تملؤها الرغبة،

تنغمس بين شفتيها

غصةٌ عاصفة.."

الناقد بكّور عاروب.. أكرم شاعر لا يبحث عن الحداثة

وأختم بهذه الشهادة للناقد الدكتور بكور عاروب، الذي يقول عن تجربة الحسين: بالتأكيد عندما يسألني أحدهم في المشهد الثقافي أو في خارجه عن أكرم صالح الحسين فالسؤال يأخذ بعدين: الأول: هو القراءة الخاصة في حياة الشاعر، وهذا أمرٌ مهم فهما كتبنا ومهما قالوا عن موت الكاتب؛ فإننا من المستحيل أن نفصل بين الكاتب ونصه، وأنا لا استطيع احتكار الإجابة عن أكرم صالح الحسين لمجرد أنه صديقي المُقرّب، ولكن ربما لأني كنت الصديق الأكثر قرباً من أكرم، عندما بدأ يعيش وعي تجربته الشعرية، وحيث بدأت بوصلته الشعرية تأخذ مسارها لا بعاطفة الشاعر، وانعكاس شعوره في النصوص التي يُسطّرها؛ بل بوعي الصنف الأدبي، وهذا يعني أنّ الشاعر هنا انتقل من مرحلة الشاعر الذاتي الى مرحلة الشاعر المفكر أي الى مرحلة الرسالة الشعرية.. هنا اكتسب نص أكرم فلسفته ولغته وأدواته الخاصة، وأنتج فكرا يتماهى مع الشعر، ويعطيه بعده البعيد الأثر في قلوب من انتمى إليهم أكرم بمصداقية عالية.

ثانيا: الرؤية الفنية للتجربة الأدبية، ومعاصرتها في إطار معاصرة المشهد الشعري في سوريّا، حيث تابعنا الكثير من التجارب القوية نسبياً، وأولئك الشباب الذين مازالوا في إطار صياغة التجربة الواعية.. هذه الرؤية المعرفية؛ ستلاحظ تطورها في شعر أكرم من: قصيدة البحيرة، إلى ظلالٍ متعبة، إلى العرافة، التي سرقت قلبه في مجموعته الشعرية الأولى (ظلال متعبة)، الى مجموعته الثانية (مغلق أنا)، حيث سيجد القارئ والمتابع أن أدوات أكرم صالح الحسين أصبحت أكثر إدهاشا وألقاً، وأن الفكر هنا يصعد في خطٍّ بياني واضح ليأخذنا إلى خطابٍ خلفي عميق للقصيدة عامة، والمفردة الشعرية خاصةً.. حيث يصل أكرم في قصيدة (مغلق) إلى مرحلة متقدمة، ترفع لها القبعة في صياغة خطابٍ عميقٍ ورائع، والأجمل أنه لا يثقل على الشعر فينزع عنه عاطفته الجميلة، وروحه اللطيفة؛ فيصوغ خطاباً للحرية بكلِّ دفءٍ، وبكلِّ حنان الشعر، وبكلِّ براعةٍ، وعمقٍ في الوقت ذاته.

ويختم د. عاروب شهادته بالقول:

1- أكرم شاعر يقرأ كثيرا فهو متجدد في تجربته ومتطور.

2- أكرم شاعر عليه الخروج بكلِّ وعي وبراعة من لغته كيلا تغلق، كما خرج في مقاصده إلى أفقٍ واسعٍ وجميل وواع جداً.

3- أكرم شاعر لا يبحث عن الحداثة كموضة شعرية بالقدر الذي هو يكتب الأجمل الذي يجد فيه نفسه، وأن كان يكتب العمود والتفعيلة...

4- أكرم لا يكتب للسوق الفكرية، بل هو يكتب وعيه وانتمائه وفكره.

5- أكرم شاعر يكتب قصيدة النثر بروح الغناء الذي يتقن فنونه لذلك تأتي القصيدة في روح الشعر الخالصة بكلِّ ثقة.