رحل عنا عصمت رشيد كما سنرحل كلنا ذات يوم، ولكن الأثر الذي تركه بعد الرحيل هو الذي سيترك لغيابه معنى، وسيحفر تلك الذكرى التي ستبقيه حاضراً بعد رحيله.
إن الأثر الذي خلفه عصمت بعد غيابه هو تلك البصمة الفريدة التي تركها في مجال الأغنية الشعبية ولا سيما المصرية، لقد كان تحدياً جديداً كبيراً منه أن ينافس بها المصريين في عقر دارهم كمن يبيع الماء في حارة السقاين.
رحلة امتدت ثلاثة عقود يرويها الشاعر عبد الرحمن الحلبي
الشاعر الغنائي عبد الرحمن الحلبي الذي استمرت صداقته وعلاقته الفنية 30 سنة مع عصمت وخلال حديثه معe.syria حول أثر الراحل: "ترك عصمت إرثاً ثراً من الأغاني بقوالب متنوعة، كان أبرزها الأغنية الشعبية، التي ظل حريصاً على مضمونها، وأن يقدم فيه موضوعات فيها عبرة ورسالة مجتمعية للإنسانية جمعاء، وقد تميّز بألحانه التي استطاع أن يجعل له فيها مدرسة تفرّد بها".
ويستعيد الحلبي الذكريات الأخيرة والتي تركت في دواخله حزناً عميقاً، ويقول: "كم يؤسفني أنه قبل رحيله بأيام أخبرني هاتفياً وقال لي: أريد منك كلمات اغنية جديدة ذات موضوع إنساني، وقد نظّمت له تلك الاغنية وبدأ بتلحينها وكل فترة كان يتصل بي ويسمعني بعض تفاصيل لحنه لها، لكننا خسرناه قبل أن ينهي اللحن و يغنيه".
الحلبي وهو يترحم على صديقه الذي قضى معه أجمل الأيام؛ يستذكر أيامه معه ويقول: "تعاونا معاً وقدمنا أعمالاً فنية متنوعة لصالح الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، كما قدّم رحمه الله ألحاناً من كلماتي لبعض المطربين وحتى المنشدين تم تنفيذها في استديوهات خاصة".
وشمل التعاون الذي بدأ في أواخر التسعينيات بين عصمت رشيد والشاعر عبد الرحمن الحلبي عشرات الأغاني كما يقول، منها الوطنية والدينية والموشحات والمونولوجات متنوعة المضمون، ومن هذه الاغاني " لا تتكبر " و" صباح الشام "، وأعمال أخرى من ألحان الموسيقار الراحل عدنان ابو الشامات، مشيراً إلى أن أكثر الاغاني التي نفذاها معاً موجودة في مكتبة الأشرطة في الإذاعة السورية، وبعضها نفذ وصور لصالح قناة نور الشام الفضائية.
ويلفت الحلبي إلى أن معظم أغاني عصمت التي اشتهر بها في عقدي السبعينيات والثمانينيات لحنها بنفسه عندما كان في مصر، وبسبب ثقافته الموسيقية وموهبته الغنية حرص على أن يلحن لنفسه أشهر الأغاني مثل "دقوا ع الخشب" كلمات الراحل سمير المصري و "ليه تشكي من الدنيا يا ورد" والكثير الكثير"، حيث أثنى عليه عمالقة الفن آنذاك، أمثال الموسيقار محمد عبد الوهاب ومحمد عبد المطلب وسيد مكاوي الذي لحن له في بداياته، كما لحن له ايضاً الملحن محمد سلطان وسواه.
هذا على الصعيد الفني، أما على الصعيد الإنساني فيقول الشاعر الحلبي "عصمت رشيد كان رجلاً نبيل الخلق نقي السريرة لطيف الحضور كريم الصفات، وعبر ثلاثة عقود ما سمعته يوماً ينم على إنسان، وقد كان أغلب حديثه عن الفن وأيام الزمن الجميل الذي عاصره، رحمك الله يا أبا بلال كم سنفتقدك ونفتقد معرفتك الطيبة لكن اسمك سيبقى خالداً مهما مرت السنون".
الوردة التي أعطت عصمت 20 ألف جنيهاً!
لقد أدى عصمت الغناوي المصرية والموال الإسكندراني وحقق نجاحات وجد لها أثراً بالغاً في باقي حياته، ومنها أغنيته بكام الورد يا معلم التي أعاد تقديمها حميد الشاعري، فصار عصمت يتقاضى عنها من جمعية المؤلفين والملحنين الدولية بباريس أكثر من 20 ألفاً من الجنيهات المصرية كل ثلاثة أشهر حتى وفاته من حقوق الأداء العلني.
سر الشغف بالطرب الشعبي المصري
الإعلامية المتخصصة بالشأن الثقافي شذا حمود تتذكر محطات من حياة عصمت التي رواها بلسانه في لقاء صحفي والذي يمكننا الوقوف على سر شغفه بالفن الشعبي المصري، فهذا الفنان ولد في حي الصالحية الدمشقي في 30 تشرين الثاني سنة 1948 لأب يعمل في الرسم الزخرفي وأقام لهذه الصنعة محلاً في ساحة عرنوس، وكان يقتني في بيته فونوغراف، ويحتفظ بأكثر من 150 أسطوانة لعتاولة الطرب المصري من محمد عبد الوهاب وسيد الصفتي، وكان عصمت بمجرد عودته للبيت من المدرسة يشغل الفونوغراف ويبدأ بتقليد عبد الوهاب، وكان أكثر ما يميل لغنائه طقطوقة حسدوني وباين في عينيهم.
وتضيف حمود: شغف عصمت بالغناء، وتشجيع أهله له دفعه لأن يبحث لنفسه عن فرصة في الغناء، وتحقق ذلك عندما دعته إدارة سينما سورية لتقديم أغاني المطرب الشعبي المصري محمد طه في البرنامج الفني التي كانت تنظمه السينما قبيل عروض الأفلام، حيث كان يشارك في هذا البرنامج المنوع مجموعة من كبار الفنانين وقتها، أمثال عبد اللطيف فتحي وفريال كريم.
النجاح الذي حققه عصمت من الغناء بسينما سورية ساعده في الظهور أمام شريحة أوسع، حيث أتته دعوة من إذاعة دمشق للمشاركة في برنامج ركن الهواة الذي كان يقدمه المذيع القدير فؤاد شحادة، وبقي القدر مخلصاً لعصمت في كل خطواته، فدعي للغناء بحلب بمرابعها ومقاصفها، واشتغل في المسرح العسكري مغنياً إبان خدمة العلم مطوراً هنالك تجربته، وفي تلك الفترة قدم أولى أغانيه "يا شعرها الأشقر" وحوارية مع المطربة سهام إبراهيم بعنوان "سارح".
من ملاهي القاهرة إلى أهراماتها الفنية
وبعد تسريحه من الخدمة الإلزامية اشتغل في مربع ليلي، وهنالك تعرف على المطرب الشعبي المصري محمد عبد المطلب ونمت بينهما أواصر الصداقة رغم الفرق في العمر، حيث وجد المطرب الستيني أن ما عند مطربنا الشاب يجعله أهلاً لأن ينافس أساطين الغناء الشعبي المصري في عقر دارهم، وأعطاه كتاباً يرشحه من خلاله للعمل في ملهى رمسيس بشارع الهرم الذي كان يديره سعيد مجاهد.
وبدلاً من أن يقيم في مصر شهراً، كما كان مقررا؛ امتدّت إقامته فيها 14 سنة، قدم خلالها سبعة ألبومات بدأها بألبوم "بحبك كل يوم" التي زادت مبيعاته على المليون و200 ألف نسخة، وختمها بألبوم "ليه تشكي من الدنيا يا ورد"، وبنى علاقات وصداقات مع أهرامات الفن، أمثال بليغ حمدي ومحمد الموجي، ولكن تراجع الأوضاع الفنية في مصر بعد اغتيال الرئيس محمد أنور السادات كما قال غير مرة، وحنينه لوطنه ورغبته المحمومة بالعودة إلى مسقط رأسه جعلاه يترك كل شيء وراءه، سعيا وراء بداية جديدة في سورية.
عطاء غزير وحضور قليل
أعماله في الوطن كان أشهرها "بس ليش بعاد" و"لولا الأمر" من ألحان سعيد قطب، ومن ألحانه "كفك يا جميل"، واستمر مواظبا في العطاء حتى بلغ أرشيفه في الإذاعة /221/ اغنية، و/70/ أغنية مصورة وفيديو كليب، فضلا عن المشاركة في خمسة مسلسلات منها عائلة فهيم وعريس الهنا والفراري، والفيلم السينمائي صيد الرجال، ولكن السؤال الذي يبقى ماثلاً في الأذهان، هل كان حضوره في وسائل الإعلام مماثلاً لحجم نتاجه الغزير.